احذر ياصاح هذا الداء الخطير والشر المستطير :
إن من أشد الأمور حرمةً وأسرعها عقوبة وأعجلها مقتًا عند الله وعند المؤمنين، ومن أشد ما يُؤثِّر في النفس ويذهب إنسانيتها ويحيل قلب صاحبها من اللحم والدم إلى أن يصير كالحجارة أو أشد قسوة هو ذلك الداء الخطير والشر المستطير الذي انتشر في الوقت الحاضر انتشارًا ينذر بالخطر وبانتقام الجبار جل جلاله, ألا وهو الظلم
الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه النار، ولو بغى جبل على جبل لدُكّ الباغي منهما.
الظلم منبع الرذائل ومصدر الشرور، وهو انحراف عن العدالة، ومتى فشا وشاع في أمة أهلكها، وإذا حل في قريةٍ أو مدينةٍ دمّرها.
قد حرم الله تعالى الظلم، حرمه سبحانه على نفسه وعلى عباده، وتوعد عز وجل الظالمين بعذاب أليم في الدارين، وذلك لما له من عواقب وخيمة على الأفراد وعلى المجتمعات، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)). وأخبر عز وجل أن من الناس من هو كثير الظلم لنفسه ولغيره فقال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وقال جل وعز: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيها المسلمون، إن الله تعالى توعد الظالمين بعذاب أليم في الدارين، وهذا هو عزاء المظلومين، فكل من ظُلم عزاؤه في وعيد الله عز وجل بالظلمة.
ياظالم اتق دعوة المظلوم :
قد يستبطئ الظالم العقوبة فيتمادى في ظلمه، ولا يتذكّر أن الله سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
أيها الظالم، إن الخير يُقفل في وجهك، وإن الشر والبؤس حليفك, ألا تعلم أنّ هناك دعوات تنطلق بالأسحار، فإذا هي تخترق الحجب فتصل إلى باريها وناصرها, فيقول لها: ((وعزّتي وجلالي، لأنصرنّك ولو بعد حين))
لقد بين الرسول أن دعوة المظلوم مستجابة فقال: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا؛ لأن فجوره لا يجيز التعدي عليه، وفجوره على نفسه، وعن أبي هريرة أن الرسول قال: ((ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين))، وعن أبي الدرداء قال: (إياك ودعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كشرارات نار حتى يفتح لها أبواب السماء). وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد".
ألا فليعلم كل من يقع في شيء من الظلم أن صاحب الحق وإن لم يستوفِ حقه اليوم فسوف يستوفيه في موقف أشد صعوبة وأقسى، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يستوفيه حينئذ خيرًا من ذلك، حسنات هي خير من الدنيا وما فيها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
أين تهرب أيها الظالم من عذاب الله :
أيها الظالم، اعلم أنّ من مات قبل ردِّ المظالم أحاط به خُصومه يومَ القيامة، فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصِيته، وهذا يتعلّق برقبته, هذا يقول: ظلمَني فغَشّني، وهذا يقول: ظلمني فبخَسني، وهذا يقول: ظلَمني فخَدعني، وهذا يقول: ظلمني فقذَفني، وهذا يقول: ظلَمني فأكل مالي, وهذا يقول: اغتابني، وهذا يقول: كذب عليّ, وهذا يقول: شتَمني، والجار يقول: جاوَرَني فأساء مجاورتي، وهذا يقول: رآني مظلومًا فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على مُنكر فلم ينهَني، وهذا يقول: جَحَد مالي، وهذا يقول: مَطَلني حقّي, وهذا يقول: باعني وأخفى عنّي عيب السّلعة, وهذا يقول: شهِد عليّ بالزور، وهذا يقول: سخِر بي، وهذه زوجة تقول: ظلمني في النفقة ولم يُحسِن عِشرتي، وتلك تقول: لم يَعدِل بيني وبين زوجته الأخرى، وهذا يقول: تعدّى على محارمي، وهذا يقول: غدَر بي، وهذا يقول: خانَني، وهذا يقول: دلّس عليّ، وهذا يقول: كادني، فبينما أنت على تلك الحال المُخيفة التي لا يُرى فيها بعضك من كثرة من تعلّق بك من المظلومين الذين أحكموا فيك أيديَهم وأنشبوا فيك مخالبهم، وأنت مُتحيِّرٌ مضطرب العقل من كثرتهم ومُطالبتهم حقوقَهم, فلم يَبْق منهم أحد ممن عاشرته في الدنيا وظلمتَه إلا وقد استحقّ عليك مَظلَمة، وقد ضعُفت عن مقاومتهم ومددتَ عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلّصك من أيديهم إذا قَرَع سمعك نداء الجبّار جلّ وعلا: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17]، فعند ذلك ينخَلِعُ قلبك، وتضطرب أعضاؤك من الهيبة, وتوقن نفسُك بالخسران، وتتذكّر ما أنذرك الله تعالى به على لسان رُسُله حيث قال: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:44، 45]، فيا لها من مصيبة، وما أشدّها من حسرة في ذلك اليوم، فعند ذلك تؤخذ حسناته التي تعِب عليها في عُمُره ليلاً ونهارًا حضرًا وسفَرًا، وتُعطى للخُصَماء عِوَضًا عن حقوقهم، فلينظر العاقل إلى المصيبة في مثل ذلك اليوم الذي رُبَّما لا يبقى معه شيء من الحسنات، وإن بقي شيء أخَذه الغُرماء، فكيف يكون حالك ـ أيها العبد ـ إذا رأيت صحيفتك خالية من حسنات طالما تَعِبت عليها، فإذا سَألت عنها قيل لك: نُقِلت إلى صحيفة خصمائك الذين ظلمتهم؟! وكيف بك إذا رأيت صحيفتك مشحونة مملوءة بسيئات لم تعملها، فإذا سَألت عنها: من أين جاءت؟! قيل: هذه سيئات القوم الذين طالما اغْتَبْتَهُم وتناولت أموالهم بالباطل وشتمتهم وخُنْتَهم في البيع والجوار والمعاملة.
أحسبت ـ يا بن آدم ـ أنّك تُهمَل وتترك فلا تعاقب، وتَظلِم وتتقلّب في النعم كيف شئت ولا تُحاسب؟! أنسيت قول النبي : ((إنّ الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخَذه لم يُفلِته))؟! كل هذا من جهالتك وعميان بصيرتك، ولكن اعمل ما شئت فإنّك مُحاسب عليه، وأحْبب من شئت فإنّك مُفارقه، واظلم من شئت فإنه مُنتصر منك يوم القيامة.
أيها الظالم :
أيها الظالم، ثمة مواقف تمرّ بها ضعها في بالك حين ولوغك في الظلم، حين تبلغ الروح منك الحلقوم، يوم تعالج سكرات الموت وكرباته، وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، فأين النصير؟! وأين المعين؟! وأين الرفيق؟! فلا أحد ينجيك إلا الله. وموقفٌ في القبر حين يفرش لك فراش من جهنم، وتغطى بغطاء من جهنم، فيما تصعد روحك فتوصد أبواب السماء دونها، فترد إلى سجّين وأسفل سافلين، ويفرش لك فراش من النار، قال الله تعالى: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]، نعم وكذلك نجزي الظالمين، يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55]. فهل فكرت ـ يا عبد الله ـ في هذه المواقف؟! وهل فكرت في وقوفك أمام الجبار وسؤاله لك عن هذه المظالم؟! فهل ستعتذر أم ستفتدي نفسك أم ستطلب الرجعة إلى دار الدنيا لتتخلص من المظالم؟! كل ذلك محال وبعيد.
الويل لأهل الظلم :
الويل لأهل الظلم من ثِقل الأوزار، وذكّرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار، يكفيهم أنهم وُسموا بالأشرار، ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار، انتقلوا إلى دار العقاب ومَلَكَ غيرهم الدار، وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار، ولا مغيث ولا أنيس ولا جار، ولا راحة ولا سكون ولا قرار، سالت دموعهم على ما جرى منهم من الظلم كالأنهار، شيّدوا بنيان الأمل فإذا به قد انهار، فإذا قاموا في القيامة زاد البلاء على المقدار، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:42- 52].
نسأل الله تعالى أن يُجنِّبنا الظلم وأن يكفينا شر الظالمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
منـــقول
أخوكم الاسمري
أرجـــوا الدعاء لوالــدي بالشفاء العاجل