حدث هذا عندما عرضت محطة الإخبارية مقابلةً مع امرأةً طاعنة في السن ، وهي تجثو عند ساسٍ من سيسان المستودع الخيري. قالت للمذيع حكايتها كاملةً ، ولأول مرةٍ نشاهد مذيعاً يخترق نظام الإعلام الذي يقول : (عدم الانجاذب العاطفي مع الحدث) . نراه يبكي ولم يستطع أن يسيطر على نفسه لقوة الحدث. المرأة تقول في حكايتها أن لديها خمس بنات مطلقات ، وكل واحدة لها من أربعة إلى سبعة أطفال، والسادسة زوجة ابنها الذي توفي عنها وترك خمسة قُصر ، كما أن لديها أختها ومعها عدد من الأطفال وكل هؤلاء الأيتام الفقراء يسكنون عندها في البيت، وهي المعيلة الوحيدة لهم جميعاً ، ولا تملك إلا سبع مئة ريال شهرياً يدفعها الضمان الاجتماعي، كما أن هناك سبع مائة ريال أيضاً يدفعها الضمان لابنتها لأنها أرملة، والبقية رفض الضمان أن يدفع لهم شيئاً بحجة أن آباءهم أحياء يرزقون . هذه المرأة بنت الأصول وبنت التربية الإسلامية العربية الشامخة، فضلت أكل لحم الحمار ، لتصون شرف وعزة بناتها من العار . قالت المرأة في كلامها -رداً على المذيع الذي خفق صوته من شدة الانكسار العاطفي - قلت للمسئولين عن هذا المستودع الخيري أعطوني أي شيء أذهب به لأولئك الجياع، قال لها المسئول : انظري إلى المستودع فإنه خالي تماماً من الأطعمة ردت عليه قائلة : (أعطوني ولو لحم حمار أطعم به هذا الجيش من الأيتام) ! إنها قنبلة! قنبلة عظمى ، انفجرت من لسان هذه العجوز ، واهتز لها الوطن من بحره الأحمر حتى خليجه، مما أثر على كنترول المذيع الشجاع وتخطى الأنظمة وصار يبكي أمام الشاشة. بلد تفجرت أرضه بالذهب الثمين وتجد فيه من يتضور جوعاً! بلد وزع الملايين على العالم، ووصلت لقمته إلى آخر جائع يقع على حدود الكرة الأرضية ، تجد فيه الماجدات يتضورن جوعاً ويحلمن ولو بقطعة لحم حمار يسدن فيه رمقهن ورمق أطفالهن! جاء هذا المشهد الدرامي الحزين بعد خبرين حزينين أيضاً . الخبر الأول يقول :إن سيدةً سعودية سائحةً في إيطاليا سُرق منها ذهب ومجوهرات تقدر قيمتها بسبعة عشر مليون دولار، سرقت منها عندما نزلت من غرفتها بالفندق الذي تسكن فيه لتناول طعام العشاء، وهذه البضاعة تسوقتها السيدة من محلات تجارية في إيطاليا، ومن لم يعرف قيمتها بالريال السعودي فإنها تساوي 64 مليون ريال سعودي . سيدة من تراب الوطن تطلب من أهل الخير ولو لحم حمار . وسيدة محسوبة على الوطن يسرق منها ما تسوقته في ذلك اليوم. هذا المبلغ لو وزع على الفقراء لعمل الشيء الكثير . الخبر الثاني : عن قيمة الصقر الواحد الذي يصل إلى أربع مئة ألف ريال في سوق العرض، وعن قيمة الناقة الملحاء التي رفض صاحبها بيعها بسبع مئة ألف ريال. إن كانت هذه الأخبار المليونية تدل على شيء فإنما تدل على البحبوحة التي يتمتع بها فئة من المجتمع بينما الفئة الأخرى الكادحة تبحث في صناديق القمامة عن لحمة حمار أو أي شيئاً يمكن أن يؤكل. ونحن نقول إن رحمة الله واسعة ولم ينس الله عباده الفقراء ولم يجعلهم تحت رحمة التسول والخنوع لأحد من الناس ، بل فرض حقهم بالقوة ، وجعل الزكاة ركناً من أركان الإسلام ، على كل صاحب مال أن يدفعها كاملةً بالريال والقرش والهللة، ولم يجعل سبحانه وتعالى تقييمها للناس والأفراد، إن أراد أخرج وإن أراد منع، بل جعل من يدفعها تام الإيمان ومن أخفاها ناقص الإيمان ، حددها بالكامل حتى إنه سبحانه حدد مدتها ومتى تدفع ، ولم يتركها لأحد من الناس، فرضها سبحانه فرضاً ليحفظ كرامة من أصابه مكروه أوعجز أقعده عن العمل . ليجعل المسلم دائماً شامخاً وعزيزاً وكريماً، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن يذهب المسلم إلى صناديق القمامة يبحث فيها عن لحمة حمار . لماذا لا تُجبى الزكاة ؟ كما فعل المصطفى ، وكما فعلها الخلفاء الراشدون من بعده، وكما فعلتها الدولة الأموية والعباسية؟ بعض قبائل نجد ارتدت ورفضت دفع الزكاة أثناء خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وأبو بكر قال (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه) لأن الخليفة رضي الله عنه يعرف أن الزكاة يجب أن تجبى بمعرفة واعية ونظيفة، ولا يمكن أن تترك بيد الناس يتلاعبون بها، لأنها ركن عظيم من أركان الإسلام .في عهد عمر بن عبدالعزيز الأموي ، دارت الزكاة على كل البلاد الإسلامية ولم يوجد من يستحقها فرجعت ، لأن الفقراء جميعهم حصلوا على ما يستحقون منها ولم يبق فقير واحد إلا صار غنياً. هناك من يقول إن الزكاة عندنا تحصلها الحكومة من التجار والشركات والمؤسسات والمشاريع، وأقول لهم نعم هذا صحيح ، ولكنها تجبى على أساس رأس المال المسجل لدى الزكاة والدخل فقط، وليس على أساس الحركة التجارية وقوة المال الذي تتحرك به الشركة أو المؤسسة . هناك مؤسسات وشركات ورجال أعمال مسجلة رؤوس أموالهم بالآلاف البسيطة بينما هم يتحركون بالمليارات والملايين، ونحن نقول إن هذه المؤسسات والشركات لا فائدة منها، لأنها تأخذ ولا تعطي ، ولا تنفع المجتمع ، ولا تساعد بتوظيف أبنائه ، ولا تدفع الزكاة كاملة , ولابد أن يتخذ ضدها إجراءات صارمة. ماذا لو طبقت الدولة أنظمة وآليات جباية الضريبة المعمول بها عالمياً وطبقتها على جمع الزكاة؟ وأرجو أن يُفهم هذا جيداً ، وأنني لا أطالب بتبديل الزكاة إلى ضريبة ، وإنما أدعو إلى تطبيق أنظمة تحصيل الضريبة في جمع الزكاة ، ومحاسبة رجال الأعمال على كل ريال وحتى هللة ، وإجبارهم على دفع زكاته . إن هذا النظام الضريبي أثبت جدارته ، ومقدرته على ضبط حركة الأموال جيداً حتى أنه وضع عقوبات صارمة لمن تهرب عن دفع الضرائب ، ولو طبق لدينا لأصبحت العقوبة عقوبتين: عقوبة التهرب عن دفع الزكاة وعقوبة إسقاط ركن من أركان الإسلام وعند تطبيق هذا النظام في جباية الزكاة ، لابد أن يتبع هيئة مستقلة ، تختارها المحكمة العليا من الرجال المشهود لهم بالنظافة والصدق ، في أعمالهم السابقة . إن كانوا موظفي دولة أو غيرهم. ولا نتبع تلك الموصفات التي نتبعها سابقاً في تقييم الأشخاص والتي تنظر فقط إلى الشكل والمظهر الخارجي وإنما تتبع سيرة الشخص في حياته العملية ، وما قدمه من خدمة جليلة لهذا الوطن العزيز. وأنني أُهيب بخادم الحرمين الشريفين الملك العادل وأترجاه تطبيق هذا النظام الذي لو تم لأضيف إلى أعماله الجليلة، ليكون أجره عظيماً عند الله، وتستمر ما جداتنا شامخات الرؤوس، والكف عن البحث في صناديق القمامة عن لحم الحمير . لماذا يا سادة نستمر في التسول لفقرائنا، وقد أعطانا الله نعمة الزكاة ، وجعل المنة له وليس لأي فرد من الناس ؟ لماذا أيها السادة لوحات التسول تملأ شوارعنا بهذه الطريقة المقرفة، ونحن نمتلك خصلة منحها لنا الله من دون العالمين؟ لماذا هذه اللوحات الفخمة التي تكلف آلاف الريالات وتذهب هدراً بينما لو وزعت قيمتها على الفقراء لكان أصلح ؟ إن هذه اللوحات الكبيرة والفخمة توحي للآخرين أن الناس جميعهم يحتاجون إلى المال، ونحن في بلد الذهب الأسود! لو جبيت الزكاة بطريقة نظامية كما فعلها رسول الإسلام ، أو كما فعلها عمر بن عبدالعزيز فإنني متأكد أن هذه الزكاة تساوي في قيمتها مزانية المملكة ثلاث مرات، وعندها يكون لدينا مليارات هائلة، نغطي بها كل احتياجات الفقراء ، من المسكن حتى الغذاء والدواء، وننشئ المراكز والمرافق الخيرية العظيمة . أيها المسلمون انظروا إلى رجالات ومؤسسات وشركات الغرب، كيف تعمل تلك المشاريع الخيرية الهائلة من الصليب الأحمر إلى (الأنروا) إلى المؤسسات الخيرية الأخرى الكبيرة، وكيف تسارع إلى كل المواقع المنكوبة بالعالم وتهب إلى مساعدتها ، ونحن وأموالنا لا نستطيع أن نساعد حتى أبناء وطننا . نملك أموالاً طائلة، وزكاة فرضها الله فرضاً بلا منة من أحد ونكون عاجزين عن التصرف بها . هذه يا سادة كبيرة عند الله وفضيحة لا تغتفر بما أننا مسلمون ، وحريصون على إسلامنا ،كيف أن فرضاً من فروض الله وركناً أساسياً من أركان الإسلام عاجزون عن تحقيقه . وفي النهاية نترك ماجداتنا وهن يبحثن حتى عن لحوم الحمير! ودمتم بخير.