الليل للذكريات و النهار للنسيان ويبقى الغسق شاهداً على عذابات الطلب الحثيث بينهما ... !!
.
.
أن تقضي حياتك تحت وطئت الظلام .. و ترتدي لباس الهدوء رغماً عنك .. مُطالِباً بحدوث فعل الحياة لك .. لا يقل عن مهمة نجمٍ عزف عن الهوى .. يمزق رداء الليل بآلاف الانفجارت
منبئاً عن ولوج الحياة إليه برغم الاحتراق .
دخلت غسق عامها العاشر و لم تتخلى امي عن أملها القديم في حصول ابنتها على حقها في التعليم و فهم الاشياء كـ البقية ... لطالما كانت
تعيق اليأس في وجوهنا بقولها : " إذا شاخت الآمال في أذهانكم .. اتسعت رقعة الاصرار في الحصول على مبتغاكم " .
بدء صباح العام الدراسي الجديد و كلٌ منا استعد له بطريقته .. كنت أراقب والداتي ريثما يحين دوري كيف تجدل ظفائر غسق و تُهيئها ليومها الأول .. كانت تشُد الوثاق في التجديل و العقد
و كأنها تُودِع صلوات الرجاء بين عُقدِ ظفائرها حتى لا تتبدد في سواد ذلك الشعر رهن عِقابٍ عن ذنبٍ لم يكن لها الخيرة من امرها في اجتنابه .
أحكمت التجديل بشرِيطةٍ حريرية الملمس .. مزكاة برشةٍ من الياسمين .. جعلتني افهم الطريقة
التي تخبر بها والدتي كيف تقول لـ غسق صباح الياسمين .
تلك الصغيرة أدركت مبكراً ان الاحساس بالحياة يتطلب اصابِع عشرة شٌغفت باستنساخ الاشياء الى عالم الظلام .. و أنفاً يتنسم لحظات الحياة روائح مدونةً بالأحداث .. !
ذهب والداي و غسق كي تبدء يومها الأول في المركز الذي اعتذر منهما أربعة أعوام متتالية عن توفر مقعد يتناسب مع حاجات ابنتهما في إعاقة حاستين مهمتين بقدر السمع و البصر .
أخذت المعلمة تشرح لـ أمي عن أساليب التعليم المناسبة لحالتها , ساعات دروسها اليومية , النظام المتبع في المركز و طريقة التواصل التي ستكونها مع الآخرين .
كان حديثها .. مسكناً جيد لوتيرة القلق المتصاعد في عيني والدتي .. هل ستعرف ماذا أسميتها .. اجابتها المعلمة في ضحك .. حتى اسمك ستعرفه .
خرجت ام غسق من ذلك اللقاء وهي تمشي في ممرات ذلك المركز الصاخب بالهدوء .. حتى تنتهي ابنتها من التعرف على معلمتها
كانت تنظر إلى إحدى الغرف إلى الصغار الجالسين فيها .. كانت الاشارات تملىء المكان
يتعاطون الضحك بـ صمت .. و البكاء بـ صمت و الغضب بـ صمت .. حتى النداء بينتهم يتداولونه في صمت
كانت طبقات من الاختناق تعج في داخلها و دمعٌ لجي يتكور في مقلتيها .. أي شيءٍ أصعب من حالة ضحكٍ كـ البكاء ؟!
قاطعت خطوات المعلمة شرودها الذهني .. لقد كان لقاءً خجولاً كعادة اول لقاء .. و لكن ابنتك تبدي تجاوباً جيداً بالنسبة لوضعها وسوف يتحسن هذا التجاوب في المستقبل القريب
ابتسمت الام في هدوء .. ان شاء الله .. عادت و التفتت نحو الغرفة .. و ماذا عنهم .. هؤلاء الصغار هل يستمتعون بحياتهم .. هل يتعايشون مع المواقف كما ينبغي .. ؟؟
أجد حتى الجمادات عديمة الروح نالت على حقها في التعبير و تجردت من صمتها
فـ صوت الشجر حفيف ,صوت الماء خرير , صوت الرصاص أزيز .. و النار اذا ما استعرت الامها اطلقت زفيراً يلتهم في جشعٍ كل تفاصيل الشقاء .. !
إن ما شاهدتِه قد آثر عليكِ .. لكن ما اخبرك به سوف يفاجئك .
أنهم يستمتعون بالحياة على القدر الذي نستمتع به .. بل و اكثر و لا أبالغ في قولي .. و اكثر
من يخرج من عالم الضجيج إلى عالم السكون يعتقد أن كل شيء تعوق عن الاستمرار على ماكان عليه و كأن ماء الحياة تجمد عن السريان
أنتم تسمعون الكلمات .. تُحِسون في تأثيرها رغم أنكم لا ترون موجات الصوت
و هم مثلكم .. لا يسمعونها لكنهم يتحسسونها بأيديهم و يشعرون بذوبانها في قلوبهم .. !!
والحياة كم كبير من المطالب .. و الحياة إرادة و قهر للإنكسار
كانت تفسيراتها ... تشابه حكايات الفرج الطافية فوق عباب اليأس
لتعود بعدها الأم الى المنزل تنتظر فيه ذلك اليوم .. الذي تخبرها ابنتها فيه عن مشاعرها حول كل شيء .
.
.
مضى عامين على وجود غسق في المركز الـتأهيلي .. اكتسبت منه لغتها الخاصه في الحوار مع المجتمع و العديد من الأصدقاء
كنت أحب في أحاديثها معي وصف معايشتها للحياة .. تلك المعايشة التي جعلتني ادرك قيمة الاحساس بها .. عادة ما كنت استرجع تلك اللقطات الملونة و الاصوات المخزنة في الذاكرة
و ما فاتني في مشاهداتي اليومية من شعور لأضيف إليها شيء من الاحساس المفقود .. و كأنني معه أستعيد معايشة الموقف .. من جديد
غير أنني لم اكن اكثر من شخص يقتات على الذكريات للحصول على نكهة الاحساس .. بما فاته في حياته
لم تكن غسق تملك ادوات تسجيل لمشاهد حياتها .. على غرارنا لذلك قررت ان تعيش لحظاتها بدلاً من تخزينها .
فـ تسخين المشاهد الباردة عبر إشعال فتيل الذكريات لايعيد اليها .. الحياة .
.
.
الاهداء :
الى اصحاب الارادة القوية
بقلم / هيفين موون
25-1-2010