الآحساء :
بعد ستة عشر عامًا قضاها صلاح من عمره، وهي الفترة التي استغرقتها دراسته من الصف الأول الابتدائي إلى أن تخرج من جامعة "الملك سعود" بقسم التاريخ، من كلية "الآداب"، لم يعد لحياته "طعم، ولا لون، ولا رائحة" بل ازدادت مرارةً، بعد تخرجه في العام 1419 ، وهو منذ ساعة حمله شهادته الجامعية وحتى اليوم، لم يقبل في مجال التدريس، أو أية وظيفة أخرى!.
الانتظار الطويل
صلاح الذي طال به انتظاره، ولَّد عنده هذا الانتظار متاعب مختلفة الأدوار، بدءًا من أسئلة ابنه ذي العشر سنوات "لماذا أدرس يا أبي في المدرسة؟ أنت تخرجت من الجامعة قبل عشر سنوات، ولم تقبل في أي وظيفة؟ ماذا يفيدني العلم سوى التعب والسهر!"؛ فكل إخوة صلاح تعبوا ودرسوا ومنهم من ذهب لـ"مصر"، وحصلوا على "الدبلوم"، ولم يقبلوا أيضًا في السلك التعليمي! تقدم بهم العمر ولا تريدهم أية جهة.
هنا بدأ الفضاء الواسع يضيق بـ"صلاح"، الذي وقف متسمرًا أمام أسئلة ابنه "نواف"، وفجًأة ينظر إلى بيت قيس بن الملوح المكتوب على إحدى جوانب غرفته "صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا، إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ"، إشارة منه لتعلقه الشديد بـ"أم نواف"، فكم تمنى أن يحقق لها أحلامها بعد أن يتوظف في مهنته التي سماها "معلم مع وقف التنفيذ"!.
معاناة "صلاح" واحدة من آلاف العذابات والإحباطات التي تلف أبناء الوطن، ممن أكملوا دراساتهم وشارفوا على عقدهم الثالث والنصف، ولم تتوفر لم وظائف تعليمية أو غيرها، سوى أنهم رضوا بالقليل، والعمل في محال تجارية أو شخصية، أو حتى في شركات براتب 1200 ريال، في الوقت الذي يعيل فيه عدد منهم أسرًا، فضلاً عن عائلتهم الزوجية، فماذا تفعل لهم الـ1200 ريال! هل تكفي لشراء حاجيات البيت، وسداد فواتير الخدمات العامة.
وظائف متواضعة
المحال التي أوت هؤلاء الخريجين الجامعيين، تنوعت بين بيع الدجاج، ومحاسبين في البقالات البسيطة ومغاسل الملابس، أو تحت سطوة رئيس أجنبي في شركة لا يحبذ تواجد السعوديين-أصلاً- فيها، بل يمهد لاستقطاب أبناء جلدته، ويضغط بكل قوة لتنفيرهم ومضايقتهم!.
خيبة الأمل
قبل حوالي 10سنوات بدأت أزمة عدم قبول خريجي الجامعات في الوظائف التعليمية، ابتداءً من التخصصات الاجتماعية، كالجغرافيا، والتاريخ، وعلم النفس، والاجتماع، ولكن الخريجين لم ييأسوا وقالوا، "ربما هي أزمة مؤقتة وتعدي"، إلا أن الحال طال كثيرا من التخصصات كاللغة العربية، والدراسات الإسلامية، وظل هؤلاء الخريجون ينعون أنفسهم، بعدما تقدم بهم العمر وضاعت الفرص، حتى كبروا شيئًا فشيئًا دون أن يشعروا بذلك، إلى أن اشتعلت رؤوسهم شيبًا ووهنت عظام كثير منهم. أما وزارة التربية فتتعذر بعدم وجود وظائف تعليمية في الوقت الحالي؛ حيث يتقدم أكثر من 34 ألف متخرج، فيما الاحتياج يكون 15 ألفا فقط، في مشكلة لم تقتصر على الرجال فقط، بل طالت حتى النساء.
عراقيل القبول
يقول الخريج أحمد، إن "الاختبارات التي تشترطها وزارة التربية والتعليم كاختبارات القياس والقدرات والكفايات، والتي يدفع المتقدم العاطل في كل مرة 200ريال من أجلها، قللت من أعداد المقبولين مبدئيًا، وذلك لصعوبتها أساسًا، ولأن معظم أسئلتها حديثة، فيما المتقدمون تخرجوا قبلها بسنوات"، مضيفا أن "مادة الأسئلة التي توضع لم يمر أغلبها في المناهج على الخريجين قبل 8 سنوات، فضلاً عن أسئلة المقابلات التي يفهم منها أنها تحصيل حاصل فقط، والخاسر هو المتقدم الذي استلف المئتي ريال ودخل بها الاختبار وخرج من المولد بلا حمص، بل بخسارة مضافًا إليها أجرة "لتاكسي الذي أقله من محافظته أو منطقته ليؤدي الاختبار المعرقل". أحمد الذي يتحدث بحسرة عن تجربته، يضيف في حديثه لـ"الوطن" مستفهما "ما حاجة معلم درس في الجامعة لأربع سنوات لمثل هذه التحاليل. هل هو شك في قدرات الأساتذة الذين خرجوه وأعطوه البكالوريوس، أم إنها طريقة جديدة ممنهجة في تسديد رسوم البطالة، مقدارها 200 ريال في السنة!".
خسارة مادية
ويؤكد مجموعة كبيرة من الخريجين أنهم ذهبوا إلى دولة "مصر" الشقيقة للحصول على دبلوم في التربية الخاصة، بعد أن قامت الوزارة بقبول دفعة كبيرة حصلت على الشهادة نفسها، ومن الدولة ذاتها. ووصلت قيمة المبالغ التي كلفت الطالب الواحد إلى أكثر من 50 ألف ريال، وبعد أن حصلوا على الدبلوم، تفاجؤوا برفض الوزارة لهم وعدم قبولهم. وهذا الانتكاسة أحبطت الكثير منهم، فأغلبهم من متوسطي الحال، واستدانوا قيمة دراستهم على أمل أن يقضوا دينهم بعد أن يعودوا ويمارسوا مهنتهم في أحضان الوزارة، التي تخلت عنهم ولم تعترف بشهاداتهم، رغم قبولها آخرين توظفوا بهذه الشهادة.
حسن واحد من أولئك الذين عادوا بخفي حنين من أرض "الفراعنة"، يروي قصته قائلا "ذهبنا للمسؤولين في الوزارة بخصوص توظيفنا بشهادة الدبلوم، إضافة إلى البكالوريوس التي نحملها، وحصلنا على وعود سرابية سرعان ما تتبخر بإجابة، ليس هناك وظائف حاليًا"، متسائلاً "أين يذهب الخريج بعد هذه السنوات التي قضاها من عمره، وماذا تبقى له أصلاً من العمر؟".
عمل للتسلية
وبعد أن يئس هؤلاء الشباب من الحصول على وظيفة تعليمية أو حكومية، أو في شركات تليق بسنوات الدراسة التي أنهكتهم، لجؤوا للعمل في أي مكان، وبراتب لا يتجاوز الـ1200 ريال في كثير من الأحيان، في عمل يعتبره البعض "للتسلية والتغلب على الفراغ والبطالة. وإلا ماذا يقدم لنا ولأولادنا الذين يدرسون في صفوف مختلفة"، كما يقول صلاح الذي يعمل في إحدى الشركات الخاصة، وبراتب زهيد، وهو يعيل أسرته المكونة من 6 أفراد، بمعاش شهري "لا يسمن ولا يغني"، جعله يعيش في حالة صراع مع الحياة كما يقول.
الحال ذاته مع الخريج الجامعي "عادل"، الذي يعمل في محل بيع الدجاج براتب 1000 ريال شهريا، بعد أن ذهبت آماله أدراج الرياح، فأسرته التي توفي عنها والده قبل 11عامًا، وضعت شهادته نصب عينها لينقذها - بعد الله تعالى - من بيتهم المتهالك، ويساعدهم في تحسين حالتهم ووضعهم الاقتصادي، ولكنه يقول وبحسرة "أصبحت في وضع أحتاج فيه إلى من ينقذني مما أنا فيه، فوضع الصحي بدأ ينحدر إلى الأسوأ، وأعاني من إصابة في الركبة شبه مستديمة، لاتبرأ إلا بعملية، ووضعنا النفسي أخذ منحىً سلبيًا خطيرًا، فكل زملائنا الذي سبقونا للتخرج بسنتين حصلوا على وظائف بشهادة الدبلوم -في التربية الخاصة-
ونتمنى لهم ألف خير، أما نحن فقد خسرنا مبالغًا لم نسددها إلى الآن، ونحتاج إلى سنوات -لايعلمها إلا الله-حتى نقضي ما علينا من دين، فمن راتبه لا يصل إلى 1200 ريال، متى سيكون بوسعه أن يقضي دينًا بـ50 ألفا!، ومتى سيتزوج ويؤهل نفسه على الأقل بالحد الأدنى، وأملنا الوحيد -بعد الله- هي نظرة الوالد الحاني على قلوب أبنائه، خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، هو من يملك القرار السامي لتوظيفنا في السلك التعليمي".
حلول وظيفية
خريجو الدبلوم والبكالوريوس، قدموا حلولاً مقترحة على وزارة التربية، "فبدلاً من حشر المعلم بـ24 حصة دراسية في الأسبوع، لماذا لايتم تقليل نصابه إلى أقل من ذلك، ومن ثم تزداد الحاجة إلى معلمين. ثم إن الوزارة حولت معلمين من التعليم العام إلى التدريس في التربية الخاصة، ونحن خريجون نحمل شهادات بذات التخصص، فلماذا لاتشترط الوزارة على المدارس الخاصة توظيف السعوديين فقط بدلاً من الأجانب"، كما جاء في اقتراحاتهم، وهي الاقتراحات التي قالوا إنها لم تلقَ جوابا حتى الآن.