ذكريات طنطاوية –1-
14/9/1423
19/11/2002
قالوا: ألا تكتب عن ذكريات رمضان(1)؟ قلت: أي رمضان؟ أهو رمضان واحد حتى أكتب عن ذكرياته؟ لقد رأيت رمضان، وكان على المائدة طبق فيه "المشمش الحموي" الذي ملأه الله عسلاً والذي لا نظير له في غير الشام، أي أنني رأيته في قلب الصيف، ثم رأيته في وسط الشتاء، ثم درت معه خمس دورات، من الشتاء إلى الصيف، ومن الصيف إلى الشتاء، وكل دورة في خمس عشرة سنة، فعن أي الرمضانات أتكلم؟.
لقد اختلطت في نفسي الذكريات، لما تعددت الأحداث، وتتابعت المشاهد، وكثرت الأسفار والرحلات، ألا ترون إلى الرائي (التلفزيون) حين يتفنن المخرج أو المصور، فيضع صورة فوق صورة، فترى المحدث أو المغني أمامك يواجهك، تختلط صورته هذه بصورته الجانبية، ويدخل معها مشهد من مشاهد الطبيعة، يعرض ذلك كله معاً، فلا تستطيع أن تميز شيئاً من شيء، بعد أن اختلطت في الصورة الأشياء!!.
لقد كنا في دمشق، قبل الحرب العالمية الأولى، نصلي العشاء وننام فتخلو الطرق إلا من أعقاب السابلة، أو من أهل الليل... وما أهل الليل إلا الفساق والعشاق واللصوص، يسكن كل شيء ويلفه الليل بثوبه الأسود.
ننام بعد العشاء لنصحو قبل الفجر، وإن غلبنا النوم – وللنوم سلطان- قمنا قبل طلوع الشمس لندرك صلاة الفجر، ما كنا قد ألفنا السهر، ولا تعودنا شر عادة حين جعلنا ليلنا نهاراً ونهارناً ليلاً، كأننا نخالف سنة الله، وطبائع الأشياء، والله قد جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً.
وكنا ننام على الأرض، ما كانت السرر إلا عند الأغنياء، وما كانت أسرتنا منهم، فكنا نمد الفرش في الليل لنطويها في الصباح، ثم نضعها في "اليوك"، وإن لم تعرفوا ما هو اليوك فإن ثلاثة أرباع أهل الشام لم يعودوا يعرفونه، إنه مثل الخزانة في الجدار، لكن بغير باب، ومن غير رفوف، نصف فيها الفرش المطوية بعضها فوق بعض، ويسدل على اليوك ستارة كانوا يعتنون بنقشها وتطريزها.
فاحسست يوماً وأنا نائم حركة عند فراشي، وكان عمري خمس سنين، سنة 1332هـ. ولكني كنت واعياً، فنهضت فإذا خوان الطعام، وكنا إذا أردنا الطعام مددنا الخوان على الأرض، ووضعنا فوقه الصواني والصحون فعجبت أشد العجب، وأحسست بمثل ما يحس به من يكشف شيئاً جديداً لم يكن معروفاً، ما لم يستبدلون بالمنام الطعام؟ ما لهم يأكلون ليلاً وعهدي بالفطور أنه في النهار؟.
وطار نومي من شدة العجب، وسألت بنظرات عيني الحائرة، والدهشة المرسومة على وجهي.. وسمعت المؤذن، لكن لم يكن يؤذن كما أسمعه كل يوم، بل كان يسرع، ينطق الجملة "حي على الصلاة" مثلاً، ثم يمد لام الصلاة، ويرخي صوته بها، ثم يرجه رجاً، ثم يعود فيمده، فإذا بلغ المد أقصى مداه، علا بصوته علواً مفاجئاً ورجه رجة سريعة، ثم صعد به أكثر فأكثر ثم أخفاه حتى ينتهي الصوت فوق، فتشعر كأنه طيارة ارتفعت حتى اختفت بين السحب وضاع أثرها.
وأنا كما قلت لكم من قبل: أوتيت أذناً لاقطة، فإن سمعت نغمة، فلا أنساها، قد لا أستطيع أداءها، ولكن إذا سمعتها بعد ذلك عرفتها، لذلك أكشف الألحان التي يدعيها الملحنون وهي قديمة، كلحن "بلادي بلادي منار الهدى" الذي أحفظه منذ صغري.
وكثرت عليّ العجائب تلك الليلة، فسمعت الباب يقرع! الباب يقرع في هذه الساعة من الليل؟ وسمعت رجلاً يضرب بالقضيب على طبلة معه، ضرباً موزوناً، وينادي: يا شيخ أحمد أفندي، يا شيخ مصطفى أفندي (وهما اسما جدي وأبي) قوموا لسحوركم.. ثم يقول كلاماً ظريفاً ما حفظته من أول مرة، ولم يشأ أهلي أن يدعوني في حيرتي، ففسروا لي ما خفي عني، قالوا إن هذا هو "المسحر" يدعو الناس للقيام للسحور، لأنه قد جاء رمضان، وإن هذا الأذان العجيب بنغمته هو أذان السحور، فما دام صوت المؤذن مسموعاً فإن الأكل يجوز، فإن انتهى فهو "الإمساك"، أما أذان الفجر للصلاة، فيؤن به داخل المسجد، والعادة عندنا في الشام، وفي أكثر البلاد، أن يكون الإمساك قبل الفجر بربع ساعة أو بعشر دقائق، مع أن الأكل يجوز بلا خلاف حتى يطلع الفجر.
قالوا ولكني لم أفهم شيئاً، ما السحور؟ وما الصيام. وما رمضان؟ إن للأطفال يا أيها القراء قاموساً خاصاً بهم. وأكثر – إن لم أقل كل- الذين يحدثون الأطفال في الإذاعة، وفي الرائي، أو يكتبون لهم في المجلات، أو يؤلفون لهم الكتب لا يدرون ما هو قاموس الأطفال، فيكلمونهم بما ليس في معجمهم (أي قاموسهم). ذهب مرة أحد أحفادي مع أبيه الذي يعمل مديراً في شركة كبيرة في جدة، فسألته، ماذا يصنع أبوك؟ قال: عنده براد (ثلاجة) يضع فيها الأوراق، أوراق في براد؟ إن كان يعني صندوق الحديد، لأن البراد أو الثلاجة هو الذي في قاموس الطفل، وهؤلاء الإخوان يكلمون الأطفال بأسلوب الجاحظ، لكن من غير بلاغة الجاحظ. وأنا أتمنى على من يريد أن يحدث الأطفال، أن يجمع جماعة منهم من سن من يريد أن يحدثهم، ثم يتلكم فإن تركوا ما هم فيه، وأقبلوا عليه، وفهموا منه، فقد نجح.
وسمعت مرة في الرائي مذيعة تزعم أنها تحدث الأطفال، فتلقي عليهم كلاماً غريباً عنهم، بعيداً منهم، ثم ترقق صوتها وتتلطف في كلامها وتقول: فهمتم يا أعزائي الأطفال. وأنا واثق أن أعزاءها الأطفال لم يفهموا شيئاً، فهم كأطفال برنامج "ظلال القرآن" يحفظونهم جواب السؤال الذي سيلقى عليهم، فإذا رددوه كما حفظوه، قيل للمعلق: ما رأيك؟ فخطب خطبة طويلة، ثم قال: إن هذا الطالب مع أنه تلميذ ابن عشر سنين لا طالب(2)، قد أجاد وأحسن. ماذا أجاد وقد حفظته أنت الجواب؟ هذا مع أني في أشد العجب وأكبر الإعجاب، بحفظ هؤلاء الأطفال وحسن تلاوتهم.
وعفواً، لقد خرجت عن الخط، وهذه عادتي، أو علتي لم أعد أستطيع منها فكاكاً فاحتملوني عليها. ***********
قالوا: جاء رمضان فلم نعد نستطيع الأكل بالنهار! افتدرون ما الذي فهمته – سنة 1332- وأنا طفل من هذا الكلام؟ فهمت أن رمضان هذا مخيف، يمنع الناس من الأكل، فلا يأكلون إلا ليلاً لئلاً يراهم. ولو قالوا لي: إن رمضان شهر من الشهور، والله الذي خلقنا ورزقنا قال لنا، لا تأكلوا فيه شيئاً، من الفجر إلى المغرب، وأن من أطاع يدخله الجنة، وهي بستان عظيم، وبيت كبير، فيه كل شيء لذيذ، إذا طلبته وصلت إليه، والذي لا يطيع يضعه في النار..
لو قالوا هذا لفهمته، أو فهمت أكثره، وإن لم أفهمه كله، وكان لنفسي ذخيرة إيمانية، أستمد منها الخير طول العمر، ولكن الأطفال مظلومون يقال لهم دائماً مالا يفهمون.
ورأيتهم يستعدون للخروج من الدار. قال جدي: تذهب معنا يا علي إلى المسجد؟ ففرحت، وقلت: نعم ومشينا في الطرق المعتمة إلا من ضوء مصابيح الكهرباء الصغيرة التي جاء بها الوالي ناظم باشا (وفي كتابي "قصص من الحياة" قصة عنه) كما جاء بالترام قبل ذلك بقليل، ووصلنا المسجد.
وكنت قد جئت المسجد قبل هذه، ولكني وجدته هذه المرة اسطع أنواراً، وأكثر ناساً وأبهى رونقاً، ولما رجعوا إلى البيت ناموا. ما هذا؟ أأنا اليوم في بلاد العجائب. نأكل في الليل وننام في النهار، والمؤذن يؤذن بنغمة غريبة ولكنها حلوة.. ورجل يضرب بطبلته في الحارة ويقرع الأبواب على الناس في البيوت؟ لم أفهم شيئاً ولكني كنت مبتهجاً مسروراً، كالذي يذهب إلى مدينة جديدة لا يعرفها، يكشف جديدها، أو كالذي يحلم حلماً، يرى فيه ما يسر ولا يدرك سر ما يرى.
ثم غلبني النوم فنمت، ولما نهضت، قلت: ألا نفطر؟ فضحكوا وقالوا: نحن في رمضان، فكيف تأكل؟ ألست صائماً؟ قلت: وهل يراني رمضان إن أكلت؟ وماذا يعمل بي إن رآني؟ قالوا: بل يراك رب رمضان، يراك الله.
وكنت أدرك إدراكاً مبهماً أن الله الذي لا نراه هو خلقنا، وعنده جنة فيها ما شئت من السكر والحلوى واللعب وكل ما أريد، يضع فيها من يحبه ومن يصلي ومن يسمع كلام أمه، وكلام أبيه، ولا يكذب، أدركت ذلك من كثرة ما أسمعه من أهلي.
ففهمت أننا لا نمتنع عن الطعام خوفاً من رمضان، بل لأن الله لا يريد أن نأكل في النهار في هذه الأيام.
وسكت راضياً وأنا أفكر في المكأفأة التي سأنالها من الله.
ولكني جعت، فسألت: إلى متى أبقى بلا طعام؟ قالوا: حين تسمع الأذان؟ قلت: الأذان الطويل؟ أعني أذان السحور، قالوا: لا، بل الأذان العادي.
وجعلت أذني إلى المئذنة، وطال عليّ الانتظار، ووقت الانتظار عادة طويل مهما قصر، حتى سمعته فأسرعت أقول: هذا الأذان، قالوا: صحيح فتعال لتأكل.
وأكلت أكلة ما ذقت إلى يومها أطيب منها، أما قال الشاعر أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
لذلك يفرح الصائم بفطره، والفرحة الكبرى الكبرى يوم يلقي ربه، اللهم اجعلني يومئذ من المسرورين أنا ومن قال من القراء، آمين، وجميع المسلمين.
( 1)نشرت هذه الحلقة في رمضان سنة 1403هـ
( 2)من بلغ الجامعة سمي طالباً ومن كان في الابتدائية أو المتوسطة فهو تلميذ