التجسس - حكمه.... وعقوبته
لعل من أشد ما ابتليت به أمتنا في تاريخنا المعاصر من أمراض اجتماعيه، أدت إلى ضعف ثقة كل مواطن بأخيه، واحترازه منه، وتكتمه عما يعتلج في نفسه أمامه عوضاً عن أن يستشيره فيما يعود على أمتنا بالنفع، وعلى أوطاننا بالحرية والخلاص من براثن الاستعمار هو التجسس، ولو اقتصر ذلك على أعدائنا المحاربين من الصهاينة وحلفائهم لهان الأمر، وأمكن الاحتراز منهم ولكن عم الخطب وكثر الخونة، نتيجة موت الضمير، وتنكر الكثيرين لأوطانهم التي ربتهم بأحضانها، وغذتهم بخبراتها، ولدينهم الذي أعزهم بعد ذل، ووحدهم بعد تفرقهم، وجعلهم سادة الدنيا وقادة الشعوب، وصفوة الإنسانية وشهداء على الناس. وما ذلك إلا لضعف إيمانهم، إذ لو كانوا مؤمنين حقًا لما اتصفوا بهذه الصفة الذميمة، التي تتنافى مع الإيمان لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (كل خصلة يُطيع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب) ولأن الله يقول جل في علاه:
((ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا)) وكم من شهيدٍ نكل به أعداؤنا ومزقوا أشلاءه نتيجةً لرصده من أبناء، قومه ونقل تنقلاته حلاً وترحالاً، ولون سيارته وصفة لباسه، ومكان إقامته لأعدائنا، ومستعمري أوطاننا، ومصاصي دمائنا، وكأنهم لم يسمعوا قول الرسول الكريم : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته).
فما معنى التجسس؟ وما حكمه الشرعي؟ وما هي عقوبة الجاسوس؟ ومن الذي يحق له أن ينفذ العقوبة؟
(1)
معنى التجسس:
التجسس معناه في اللغة تتبع الأخبار، وسمي المتجسس جاسوسا ً، لأنه يتتبع الأخبار ويكشف عن بواطن الأمور.
ومعناه في اصطلاح فقهاء المسلمين هو نقلٌ أخبارِ الجيش الإسلامي، وأماكن تمركزه ونوعية سلاحه إلى الأعداء.
(2)
حكمه الشرعي:
التجسس على المسلمين حرام ومنهيٌ عنه في القرآن الكريم بقوله تعالى: ((ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً)) وبالسنة المشرفة فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث الذي ذكرناه سابقاً.
وبإجماع فقهاء المسلمين ومفسر يهم قديماً وحديثاً واعتبروه من الكبائر التي لا تمحوها إلا التوبة.
(3)
عقوبة التجسس:
ولعل من المفيد أن أنقل أقوال الفقهاء في عقوبة الجاسوس إن كان مسلماً أو ذمياً أو حربياً.
فقد أجاب العالم أبو يوسف الخليفة هارون الرشيد حينما سأله عن عقوبة الجواسيس على المسلمين وهم من أهل الذمة، أو من أهل الحرب، أو من المسلمين، فأجابه "إن كانوا من أهل الذمة ممن يؤدي الجزية من اليهود أو النصارى أو المجوس، فاضرب أعناقهم وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة، وأطل حبسهم حتى يحدثوا توبة" (الخراج لأبي يوسف ص 205)
وقال الإمام محمد بن حسن الشيباني: وإذا وجد المسلمون رجلاً يدعي الإسلام عيناً للمشركين على المسلمين، يكتب إليهم بعوراتهم، وأقرّ بذلك طوعاً فلا يقتل ولكن يوجعونه عقوبة، ومثله لا يكون مسلماً حقيقياً، واستدل بحديث حاطب بن أبي بلتعه، إذ لوكان عمله موجبا للقتل لقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر على عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) طلب قتله.
وذهب المالكية إلى أن الجاسوس الذمي المستأمن يقتل، وذهب سحنون إلـى أن المسلم إذا كتب لأهل الحرب بأخبار المسلمين، يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب. وقيل يجلد نكالا ويطال حبسه، وينفى من الموضع الذي كان فيه (تبصرة الحكام2/ 177). وقال الإمام مالك وابن القاسم وأشهب يجتهد الحاكم في ذلك، فإن كانت عادته ذلك قتل لأنه جاسوس والجاسوس يقتل وهو الصحيح لإضراره بالمسلمين، وسعيه بالفساد في الأرض.
وذهب الشافعية إلى أن الجاسوس المسلم يعزر ولا يقتل، أما الحنابلة فقد ذهبوا إلى قتل الجاسوس سواءً كان ذميا أو مسلما أو حربيا (موسوعة الفقه الإسلامي م 10ص166).
أما الجاسوس الحربي إن أقرّ بتجسسه أو شهد عليه شاهدان بذلك يقتل ويقبل بذلك شهادة أهل الذمة وأهل الحرب وشهادة أهل الحرب حجه على الحربي،أما إن وجد معه كتاب يخبر بعورات المسلمين،ولم يقرّ بأنه خطه فالإمام يحبسه حتى يتبين أمره، فإن تأكد تجسسه قتله، وإن لم يثبت ذلك رده إلى دار الحرب، ولم يدعه في دار الإسلام يوماً واحداً، لأن الريبة في أمره قد تحققت، وتطهير دار الإسلام من أمثاله من باب إماطة الأذى عن المسلمين السير الكبير م 5 /204.
وذهب الإمام محمد بن حسن الشيباني إلى أن الجاسوس الحربي يقتل، وإن رأى الإمام أن يصلبه حتى يعتبر به غيره فلا بأس بذلك،وإن رأى أن يجعله فيئاً فلا بأس بذلك أيضاً كغيره من الأسرى، إلا أن الأولى أن يقتله ليعتبر به غيره، فإن كان مكان الرجل امرأة فلا بأس بقتلها أيضاً، لأنها أرادت إلحاق الضرر بالمسلمين كما لو كانت محاربة، إلا أنه يكره صلبها لأنها عورة وستر العورة أولى.
وإن وجد غلام يتجسس ولم يبلغ وهو في سن الطفولة لم يقتل، كما لو وجد في صفوف الأعداء، ووقع أسيراً بل يعزر ويؤخذ سبياً، أما الشيخ الطاعن في العمر إن وجد يتجسس فيقتل، لكونه مخاطبا.
ومما تقدم يتبين لنا أن علماءنا أفتوا بأن عقوبة الجاسوس الحربي القتل على أي حال عند الجميع بأي وسيلة وجدها المسلمون رادعة لغيره ومرهبة لمن تسول له نفسه التجسس على المسلمين، سواء كان القتل بالسيف أو بالصلب أو بالشنق. أما إن كان ذمياً مستأمناً فقد رأى أبو يوسف من الأحناف وبعض المالكية والحنابلة قتله إن ثبت تجسسه بإقراره أو بالشهادة عليه، ونفيه من دار الإسلام إن لم يثبت ذلك وارتاب المسلمون في أمره، من قبيل إماطة الأذى وتطهير المجتمع الإسلامي من شره.
وأما الجاسوس المسلم فإنه يعزر بطريقة رادعة، ويطال حبسه ولا يقتل عند أبي يوسف ومحمد بن الحسن وبعض المالكية والمشهور عند الشافعية، وذهب الحنابلة وبعض المالكية إلى وجوب قتله (الموسوعة الفقهية م10ص166).
(4)
أما من يجوز له أن ينفذ العقوبة:
فإن كان للمسلمين ولي لشؤون أمورهم أو قائدٌ حربيٌ يتولى قيادتهم، فهو الذي يحق له إصدار الحكم وبيان نوعيته، ولا يحق لأفراد الجيش إصدار الحكم، أو تنفيذ العقوبة سدًا للذرائع وقطعا لدابر الانتقام، وحقناً للدماء البريئة.
أما إن لم يكن للمسلمين خليفة، ولا للجيش قائد عام ووجد المسلمون من يتجسس عليهم، وتأكدوا يقيناً من تجسسه، فإن كان مسلماً، أوجعوه ضربا، وسجنوه اتقاء شره، وردعا لغيره فإن تكرر ذلك منه جاز لهم قتله.
وأما إن كان من الأعداء، تولى المسؤول عن الفئة المقاتلة المسلمة قتله بالوسيلة التي يراها رادعة لأمثاله لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة) رواه الترمذي 2193- م/6ص353.