.
.
ملاحظة : رأسي يؤلمني .. كل الكلام أدناه تفكير داخل الصندوق !!
قبل الحافة :
كلما مات أحد أحبة أمي ازداد صمتها وفي خلسة ممن حولها
تكفكف دمعتها بطرف شيلتها وتتنهد وتتمتم بكلام لا نعرفه ولكننا نحسه ..
نحسه رماحا تخترق قلوبنا !!
ذات مرة كتبت رسالة وعهدت بها إلى
أختي الكبرى وقلت لها حينما أموت إقرئيها ،
وجمت أختي لدقائق وأغرورقت عينها بالدمع وقالت بذهول :
طيب ... وكأنها لاتدري ما الذي تقوله !!
بعد ساعة اتصلت عليّ وانفجرت باكية وقالت :
"حرام عليك اللي قاعد تسويه .. تعال خذ رسالتك !! "
كلما تذكرت هذا الموقف ، أدرك جيدا حجم الألم الذي سببته لها ،
وأندم عليه مليون مرة .. ولكن أحيانا نريد أن نقول شيئا لإنسان نحبه ،
ولا نملك المفردات المناسبة ،
إذ أن مفرداتنا في لحظة ما تصبح معدومة القيمة !!
أحيانا تدرك أنك تكذب ليلا ونهارا على أحبتك ،
وتقول لهم حقيقة مزيفة ، وتمنحهم خديعة مؤقتة ،
كمن يصنع من الكلمات بيتا لا يسكنه أحد ،
تخبرهم أوهاما وتطالبهم بأن يزدردوها على عجل .
…
أذكر مرة أنني كنت أتحدث مع مصاب بالسرطان حماكم الله ولطف بكم ،
وكنت استمع إلى معاناته ، ثم بدأت أخبره قصصا
وقصصا لأقارب لي مروا بالحالة ذاتها ،
وكيف أنهم تجاوزا الأزمة وأصبحوا أصحاء ،
كنت أخبره عن الأثر الكبير الذي أحدثه الانتظام في تناول العلاج ،
والحرص على التفاؤل ، كنت أتحدث معه لساعات .. وكان يستمع ويفرح ..
كنت أشعر في عينيه أنه يصدقني ،
يصدقني من كل قلبه ويؤمن بكلامي وقصصي ..
كنت أحيانا أرى في عينيه حيرة وكأنه يسألني
لماذا لم يتماثل للشفاء مثل أقاربي ؟
ولماذا لم يؤثر العلاج في المرض بالسرعة التي أثر بها في أقاربي ؟
كنت كلما رأيت هذه الحيرة أخبرته بمزيد من
القصص الجديدة التي تؤكد قصصي السابقة ..
إلا أنه مع الأيام لم تنته الحيرة من عينيه ..
بل كنت أراها تزداد مرة بعد مرة ..
وذات مساء أخبروني أنه مات ( رحمه الله) .. !!
هكذا اتصال هاتفي .. وبكلمتين تخبرك أنه مات ..
هكذا يتحول الإنسان إلى مجرد رقم ملف أو رقم غرفة ..
ويقولون لك أنه مات ..
كل ما فعلته أنني
استندت إلى الجدار ودفنت رأسي بين يدي وتذكرت حيرة عينيه ..
تذكرت كل القصص الكاذبة التي اختلقتها عن زوجة عمي ،
ووالد زوج ابنة خالتي ،
وزوج ابنة عمي ..
تذكرت كل الأكاذيب والقصص التي اختلقتها ..
تذكرت كيف كان يصدقني ويؤمن بكلامي ..
وحينها علمت أننا أحيانا نكذب لنعيش نحن وليس ليعيش الآخرون !!
..
رأسي وقلبي يؤلمانني .. وهذا أمر غير جديد .. غير جديد البتة ..
عندي مشكلة في النوم .. أيضا أمر غير جديد ..
منذ سنوات وأنا أعاني من هذا الأمر ..
كنت في المستشفى وكنت أمر بجانب مكتب إحدى
استشاريات الأعصاب والصحة النفسية ،
كانت تجلس بهدوء وتقرأ في كتاب . .
طرقت بأناملي طرقات خفيفة على
الباب ثم ابتسمت وسلمت عليها وقلت لها مباشرة أنا عندي مشكلة ..
ابتسمت وقالت : أقطع كشف وتعال ، فأخبرتها أنه مجرد استفسار بسيط ..
- أنا عندي Sleeping disorder .
- منذ متى ؟
- من سنوات ؟
ثم تبادلنا الكلام لعشر دقائق تقريبا ، وفي نهاية الكلام قالت لي :
توقف عن التفكير وحمل الآخرين وهمومهم معك إلى السرير.
وحينها سألتها عما إذا كانت تستطيع هي فعل ذلك ؟
أجابتني بشكل مباشر : لم أكن استطيع .. ولكنني تعلمت ذلك مع الأيام ..
ثم صمتت قليلا وقالت : بعد ستين عاما من العمر تتعلم الكثير !!
...
لا استطيع التوقف عن التفكير في ذلك الإبن الذي
رافق والده في المستشفى لمدة 13 عاما كاملة .
ترك الحياة خلفة وأصبحت المستشفى هي دنياه وعالمه ..
الأطباء والطبيبات والممرضون والممرضات هم
عائلته الكبيرة وأصدقاؤه.
ترك بيته وعمله وكل مباهج الحياة لأجل والده .
كل ما تذكرت قصة هذا الإنسان
– قرأتها في مجلة الأسرة العدد 180 –
تقتلني التفاصيل الصغيرة التي كانت تحيط به ،
أفكر كيف اتخذ هذه القرار ، كيف عاش أول أسبوع ،
كيف تأقلم مع رائحة المستشفى والأدوية والمطهرات ،
كيف تأقلم مع كل هذا البياض الذي تتلون به المستشفيات ،
كيف تأقلم مع النوم في المستشفى ،
ما الذي كان يدور في باله وهو
ينظر إلى والده الذي لا يستطيع الكلام ،
كيف نمت مشاعره في المستشفى البارد ،
هل كانت له أحلام وتناساها ،
هل كان سعيدا ، كم مرة بكى فيها ،
هل وجد من يشاركه حزنه ،
هل اشتاق لغرفته في المنزل ،
هل كان يقرأ في المستشفى ، كم كتابا قرأ ،
هل كان سريره في المستشفى مريحا ،
كم مرة أيقظه الممرضون ،
هل أصبح نومه خفيفا جدا بسبب حياته في المستشفى ،
هل تعود على سماع الصراخ في المستشفى ،
هل تعود على سماع الأنين ،
كم مرة اشتاق لشيء ولم يجده لأنه في المستشفى ،
كيف كان ينظر لأبيه ، هل كان ينظر إليه وهو نائم ،
كيف كان دعاؤه ، كم مرة دعا لوالده ،
هل مل من تكرار المناظر ذاتها ،
كم مرة فكر فيها في مستقبله ،
ما الذي كان يدفعه للابتسام ،
ما الذي كان يحبه ،
وما الذي كان يكرهه ..
كيف أمضى هذه الـ 13 عاما وهو
يرى والده تسلب الحياة منه ،
هل كان يتحدث إلى قلبه .. ما الذي كان يقوله ،
كم آهة أطلقها ولم يسمعها أحد .. ؟؟؟؟
...
أفكر أحيانا .. ماذا لو توقفتُ عن الحياة في لحظة ما !!
ما الذي سيقوله أحبتي ؟
ثم أفكر ماذا لو مات أحد أحبتي ما الذي سأفعله ؟
أفكر ما الذي يمكن أن تقوله لإنسان لم يعد موجودا ؟؟
أحيانا أفكر وأتمنى أن يعود أحدهم فقط لدقائق ..
سأخبره ما الذي حل بي من بعده .. ثم ليفعل مايشاء ؟؟
...
أثرت كثيرا في قلبي كلمة لشاب كندي كتبها على قطعة من الكرتون ،
وجلس على رصيف وهو ممسك بهذه القطعة ، حيث كتب عليها:
(Everyone needs help sometimes
كل واحد منا يحتاج للمساعدة أحيانا ).
فكرت في هذا الشاب كثيرا ، لا أدري بطريقة ما عبرت قلبي كلمته هذه ..
وخصوصا كلمة (أحيانا) ..
ربما أنها ذكرتني بأننا جميعا في لحظة ما نحتاج إلى من يساعدنا بطريقة ما .
...
أفكر كثيرا في عبارة قالها زميل في أيام الجامعة قال :
" إن الكتف هو أهم جزء في الإنسان .. إنه حيث نستقبل أصدقائنا ليبكوا عليه "
.. ربما تبدو هذه العبارة عادية لدى البعض . .
ولكن السنوات لم تستطع أن تنسيني هذه الكلمة ..
وتذكرت كم واحد منا احتاج في لحظة ما أن يبكي وأن يشاركه صديقه حزنه وبؤسه !!
, , ,
منذ سنوات وأنا اقتني ديوان " لالزوم لي " للشاعر عبدالعزيز جاسم..
من فترة لفترة أقرأ فيه وأفكر في عبارته هذه :
(هكذا صرت وحيدا وتالفا ولالزوم لي ،
أجلس في مكان بعيد لاحياة فيه ولا حياة فيّ ، ولا انتظر أحدا )
تؤلم قلبي كثيرا هذه العبارة ..
أفكر فيها واتذكر أصدقائي في البعيد ..
عبدالله ومزهر ومحمد ..
وأشعر بالحنق عليهم ..
كيف ضيعوني وسمحوا لي بالرحيل . . !!
أفكر كثيرا كيف منحوا كل هذا الفضاء فرصة ابتلاعي !!
ألم يكونوا ينظرون إلى عينيّ وأنا أودعهم ؟
أفكر هل صدقوني حينما كذبت عليهم وقلت لهم أنني سعيد ؟
أفكر هل يدركون حقا كيف هي المساءات بدونهم ؟
أفكر هل شعروا مثلي كم هي كئيبة إجازة نهاية الأسبوع وهم ليسوا فيها ؟؟
. . .
كلما تذكرت أمي أتذكر بطريقة ما طريقة لفها لشيلتها ،
أتذكر طريقتها في إخفاء خصلات شعرها حينما تبرز
من تحت شيلتها من المقدمة ، أتذكر جلوسها وهدوءها ..
أتذكر عبارتها التي ترددها دائما :
" يارب خذني والحال بي جميل "
.. وأفكر من أين أتت أمي بهذه العبارة .. ؟
من أين سمعتها ؟ هل اخترعتها ؟ أفكر في هذه العبارة كثيرا ..
لطالما فكرت في معنى هذه العبارة .. إنها تقصد :
يارب أمتني وأنا بصحتي وعافيتي على خاتمة حسنة ..
أو يارب أحسن موتتنا .. أو يارب لا تحوجني لأحد غيرك !!
. . .
حينما قرأت (رواية الزهير ) لباولو كوهيلو
اخترقت قلبي هذه العبارة:
( ... فأنا أتحدث عن أمر في غاية الأهمية ،
عن قدرة الإنسان على فعل الشر متى أتيحت له الفرصة ....) ...
فكرت فيها كثيرا .. وتساءلت إلى أي حد يمكنني أن أتوغل في منطقة الشر .. ؟
ما الذي يمكن له أن يوقفني من تقدم خطوة إضافية في الشر ؟
إلى أي حد يمكنني أن أؤذي إنسانا ؟
تساءلت بحيرة .. كم إنسانا في هذه الدنيا يؤذيه وجودي وأنا لا أعلم ؟ ؟
على الحافة :
يارب خذني والحال بي جميل
منير / المعلق من قدميه
16- 10 -2008
الحالة : Life Disorder
.
..
.
منقووول