ويبقى الغانم
[IMG]https://www.btalah.com/images/font_s****.jpg[/IMG]
هكذا هم العظماء، وإن رحلوا عنا بأجسادهم فإنهم باقون بأعمالهم وأفعالهم وعطاءتهم وذكرهم الطيب.
على عكس الملايين المليئة من البشر الحية أجسادها الميت ذكرها، حتى وإن كانت بيننا تأكل وتشرب وتمشي وتستنشق الهواء، وهؤلاء هم الذين ذمهم الله بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}.
كنت وأنا أقرأ نتافات مما كُتب عن الشيخ عبدالله الغانم بعد وفاته أجد كلمات من مثل (رحل، ويرحل..).
وأقول: (ويبقى الغانم).. يا ترى: من منا لا يعرف الشيخ، أو يكون قد سمع به لا سيما من كان ذا إعاقة؟
إن أربعة عقود من الزمن قد احتوت أشهرها وأيامها وساعاتها من الإنجاز والعطاء والتحدي ما لا يمكن أن يحتويه سفر أو تسعه مذكرات. تساءلت ذات يوم: كم هي الكتب التي ألفت عن هذه الشخصية العظيمة؟ كم هم الكتَّاب الذين تناولوا الشيخ بالترجمة والتأليف؟
كنت أظن أنني سأجد العشرات، ولكن الطامة الكبرى أنني عندما بحثت لم أجد سوى ترجمة واحدة ضمن كتاب (من روادنا التربويين) للدكتور:عبدالله بن محمد الزيد.
اتصلت بالشيخ، وأنا على وجل أن أجد صوتاً يدافعني ويسأل: من أنت؟ ماذا تريد؟ وغيرها من الأسئلة التي كم اعتدنا سماعها من أولئك المتعالين المغرورين. كنت أخشى من أن يعتذر عن مهاتفتي بأي مبرر كان، أوعلى الأقل يتجاهلني. ولكنني فوجئت برجل عظيم يتحدث بكل أريحية وتواضع وكأنه يعرفني منذ سنين. طلبت منه موعداً للقاء به فلبَّى دون تردد وفي الموعد المحدد أتيته في مكتبه بالأكاديمية لأجده قد وصل قبل الموعد، وما أن علم بقدومي حتى خرج لاستقبالي في حفاوة وتكريم معانقاً إياي ومطبطباً على ظهري، وكتفي آخذاً بيدي حتى أجلسني على الكرسي الملاصق لمكتبه.
أصبح يتحدث إليَّ بكل تواضع، وكان يسألني عن عملي ودراستي والأولاد بعد أن طلب من ابنه عادل أن يحضر القهوة والشاي والماء.
قلت: يا شيخ عبدالله أتيتك لأطلب منك طلباً، وهو طلب كل كفيف، قال لي أبشر، قلت: أريد أن أوثق سيرتكم فهي بحق جديرة بالتوثيق، ضحك الشيخ طويلاً ثم قال: أستغفر الله، الله المستعان، ومن أنا حتى توثق سيرتي؟
قلت هذا تواضع منك يا شيخ، قال هي الحقيقة؛ إلا إذا أردت أن توثق ما يتعلق بالتعليم الخاص من حيث بداياته وتطوره، وليس عن شخصي أو ذاتي.
قلت في نفسي: إن الشيخ عندما يتحدث عن تلك الحقبة من الزمن فإن حديثه سيجره إلى إيضاح الكثير من الجوانب المهمة في سيرته، قلت: يا شيخ لك ما تريد، قال إذن على بركة الله، قلت إ نني أستأذنك أن أسجل بواسطة جهاز التسجيل ما سوف تتحدث به قال: لا بأس.
قمت وفي عدة جلسات بتوثيق حديثه عن بداية نشأة التعليم الخاص ومراحل تطوره وتأسيس المكتب الإقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين وغيرها من المحطات المختلفة التي مر بها الشيخ طيلة مشوار حياته العملية التي استمرت أكثر من أربعة عقود.
ومن خلال جلساتي تلك وجدت نفسي أمام رجال في ثوب رجل واحد؛ لأن منجزات الشيخ وعطاءته طيلة تلك الفترة قد يعجز عنها عدة رجال، ولا غرو فقد زار أكثر من 120 دولة حول العالم لدعم قضايا المكفوفين، وأنهى أكثر من 25 جواز سفر كلها سفر وارتحال لإنجاز تلك المهمات، وكنت بعد فراغي من لقاء الشيخ أشعر بأنني أقل وأقل من أن أكتب عن هذا الرجل العظيم.
كنت أتساءل: أين كتَّابنا الكبار؟ وأين تلك الأقلام السيالة؟ من الكتابة عن هذا العبقري؛ أعني تأليف الكتب أو الترجمة لا أعني التحقيقات أو المقالات الصحفية.
وأعرف أنك سوف تتساءل عزيزي القارئ عن مصير ذلك التوثيق، وأنا سأجيبك وأقول:
إنني كنت كل يوم أسوّف وأسوّف وأقول لعله يقوم بهذه المهمة من هو أقدر مني وأكفأ، ولكنني وحتى يومنا هذا أتألم كثيراً من هذا التجاهل والتناسي للشيخ خصوصاً في سنواته الأخيرة، لا سيما ممن زاملوه وعاصروه أو من أصدقائه: أين هم من الكتابة عنه؟
ولعل من حقه علي أن أعجل بإصدار هذا الكتاب والذي عنونته (الشيخ عبدالله الغانم حياته وسيرته) سائلاً الله العلي القدير العون والتوفيق والرشاد والسداد.
سلمان ظافر الشهري