رسوم الأراضي البيضاء وبروكروتوس
.. بروكروتوس في الميثالوجيا اليونانية كان مالكا لمبنى صغير في منطقة كوريدالوس، بين مدينتي أثينا وإيلوسس. وكان لصاحبنا بروكروتوس هذا عادة كريمة في استضافة عابري السبيل، يستضيفهم بكرمٍ ويقدم لهم عشاءً فاخرا ثم يدعوهم لقضاء الليلة عنده. وكان عنده سريرٌ واحد، ولكن أيضا من صفات بروكروتوس الحميدة أنه مغرم بالكمال والدقة فلا يريد أن يفيضَ شيءٌ عن شيء، أو يتفاوت شيء من شيء.. كلّ شيء بالمقاس، أو التراكب المتساوي بلا خلل.. ألا ترون فيه رجلا طيبا؟ طيب، قبل أن تتسرعوا وتطلقوا عليه "حاتم طائي" الإغريق.. تمهلوا لحظة.
إن حبَّ الكمال والدقة عند المضياف بروكروتوس تعدى حدوده "حبتين" على ما تعود عليه الناس أصحاب الصفات الفاضلة، فقد كان عنده سرير بمقاس محدد، يقدمه مناما لطرّاق الطرق من ضيوفه؛ لذا فمن يلومه إذا أراد أن يطابق الضيفُ مقاسَ الفراش بالتمام والكمال. لكن، كانت هناك مشكلة.. المشكلة ليست مشكلته، بل مشكلة الناس، وهي أنهم يتفاوتون في الطول والقِصَر، أرأيتم كيف يخطئ الناس على "بروكروتوس" المضياف والطيب، وعلى سريره، فالناسُ لم يطابقوا السريرَ تماما.. إنما الطيّب الدقيق بروكروتوس وجد حلا، والحل بسيط جدا، ولكن إن كان من بينكم من هو مفرط الحساسية أو به ضغط أو شريان قلب أو حامل فلا يتابعون القراءة رجاءً.
كان حل بروكروتوس حتى يتطابق بدقةٍ السريرُ مع الضيف أنه يربط بشدة الضيف بالسرير، فإن كان قصيرا مطّ رجلـَيْه مطا حتى يمصعهما من حوضه ليتوافق مع السرير، وإن كان الضيف طويلا، الله يعين بروكروتوس فقد كان يتعب حتى ينشر ساقـَيْ الضيف حتى تتحقق المطابقة.
تذكرت موضوع الرجل الطيب المضياف بروكروتوس في مسألة الأرضي البيضاء، وما أوصى مجلس الشورى ورغبة كثير من الناس بأن يُفرض عليها الرسوم.. وهنا في عرف بروكروتوس أنت ترتكب جناية كبرى وخطأ لا يقبله العقل المنطقي المشغوف بالمط والقطع للمطابقة، إذن وجب فرض أنظمةٍ تـُمَط مع السرير هو الصحيح.. يعني أن الأراضي البيضاء الشاسعة هي سرير صاحبنا بروكروتوس، وبالتالي النظامُ سينام على السرير، سرير الأراضي الشاسعة، فإن قصُرَ النظامُ بسيطة: مطـّوه.. وإن طالَ النظامُ يعني أبسط: انشروا أقدامه.
ونحن الآن فهمنا منطق رفض الرسوم على مساحات الأراضي البيضاء التي خلقت مع تكوين الأرض من مرحلتها الغازية إلى تجمدها وتكورها من صهيدها إلى ثلجها ومن مائها إلى برها ومنذ تخاصمتْ الـُّلوَحُ القاريّة وتفرقت في الأوقيانوسات، ثم يأتي من يمتلكها - شراء أو غير شراء - ولا يضيف لها حبة ترابٍ واحدة منذ بدء النشء الأرضي من بلايين السنين فيستحلب منها الملايين بل العشرات، بل المئات، منطق عجيب، ولا يفهم هذا الديالكتيك إلا حابسو الاقتصاد، نعم أسميهم حابسي الاقتصاد، تصوروا كم من الأموال مجمّدة من ثروة الأمة ربما الثلث في الأراضي البيضاء، وتتراكم وتزيد، بينما الأرضُ لا تحمل عبئا ماليا ولا جهدا ولا شيئا البتة؛ لذا من الطبيعي أن تجد مصانع أو مؤسسات خدمية توظف عشرات الآلاف، وتشغل الترس الإنتاجي في الوطن وتصبه في الناتج الوطني ولا تربح ما يربحه مالكُ أراضٍ بيضاء ليس عنده ربما موظف واحد، وإن تضخم جهازُهُ الإداري فمن ولده وعامل من السوق؛ حتى لا يتحمل تأشيرته ومسؤولية إقامته. وهناك نتيجة منطقية أخرى ستحصل؛ سيسأل صاحبُ المصنع أو صاحب المؤسسة الخدمية نفسَه: ماذا حلّ بي أمجنون أنا؟ أشقى بهذا المصنع لأربح نسبة قليلة وقد أتعرض لخسارة في أية لحظة، وصاحبي "أبو عقار" يربح أضعاف ما أجني.. يالله يا ولد هيا للعقار" فيحضر سريرٌ آخر يتمتع بالمط والقطع النظامي.. وفلوس تتكوم وتتضخم .. وتركد.
أنا أحتاج هنا رأيا شرعيا من عالم يقيّم المسألة الاجتماعية والتي هدفها التراص والتكافل والأمان: هل يشجع الإسلامُ حكر الثروات الضخمة غير النافعة للآخرين ضد مصالح الملايين الذين تشوي أجسادهم كل لحظة عيش من أجل الملاذ والطعام؟
بيقيني كمسلم أغار على ديني وأوقن أنه أفضل نظام سماوي وأرضي يخدم المصلحة الإنسانية لا يمكن أن يقرّ هذا، وهل الإسلام مجرد نص يطبق، أم نتيجة عادلة تتحقق.. هنا السؤال. لا يمكن أن يكون ديننا الحنيف القويم سرير بروكروتوس..
بروكروتوس، آسف، كان شريرا ساديّا.. دينُنا ليس هو الخير فقط، بل إن الخيرَ والمحبة تنبعان منه.
.. لا خيار!
نجيب الزامل