أرووووع مقال قرأته مؤخرا لكاتبي الخاااص / عادل درويش ...
أنصحكم بقراءته من الالف الى الياء ...
أوقات سعيدة ...
تعهدت الهند بمضاعفة إنتاج مصل شلل الأطفال لمساعدة نيجيريا (فيها أعلى الإصابات في أفريقيا) في القضاء على المرض.
عدد سكان الهند يفوق مليارا و200 مليون نسمة، ونسميها في الصحافة أكبر ديمقراطية في العالم، إذ يحكمها نظم برلماني، تتبدل فيه الحكومة بالانتخابات، وتشكل الأغلبية الحكومة، تماما كنظام أم البرلمانات في وستمنستر.
احتفظت الهند بأفضل ما تركه الإرث الاستعماري البريطاني؛ النظام السياسي البرلماني، القضاء، حرية الصحافة، نظام التعليم، تركيب الجيش وتدريبه وتشكيلاته وتسليحه؛ الطيران والبحرية، وبالطبع السكك الحديدية، كلها نسخ من مثيلاتها البريطانية.
فالهند، عندما كانت لؤلؤة التاج البريطاني الإمبراطوري، كانت جزءا من بريطانيا منذ عهد الملكة فيكتوريا. وبريطانيا هي التي بنت هذه المؤسسات التي حولت الهند اليوم إلى قوة عظمى.
فمتوسط معدل النمو الاقتصادي المتوقع للهند هذا العام ثمانية في المائة (معدل نمو اقتصاد بريطانيا أقل من نصف في المائة، وأفضل بلدان الغرب نحو واحد في المائة). والشركات البريطانية والعالمية المتعددة الجنسيات تتهافت على الاستثمار في الهند، وعندما تطلب البنك الذي تودع فيه مدخراتك، أو يقرضك ثمن شراء المنزل، أو حتى تطلب مهندسا ليشرح لك على التليفون طريقة إعادة برمجة الكومبيوتر الشخصي، سيجيبك صوت مهذب يتحدث الإنجليزية وفق القواعد اللغوية الصحيحة، لكن بلهجة هندية. فمعظم الشركات نقلت خدمات الزبائن التليفونية (call centres) إلى الهند. شركات المحاسبة ومكاتب خدمات الطباعة والنسخ والترجمة والمحاماة، نقلت كل مراكزها إلى الهند.
الهنود أنقصوا نسبة الأمية من 66 في المائة إلى 27 في المائة في ربع قرن. لا يخجلون من استقدام الاستثمارات الأجنبية أو بيع العقارات والمزارع والمرافق للمستثمر الأجنبي (فبدوره يخلق فرص عمل). ولا يخجلون من التفاخر بأنهم تعلموا الإنجازات من الإنجليزي، المستعمر القديم. الهند حليف لبريطانيا في الدبلوماسية الدولية، وفي التصويت في الأمم المتحدة ومؤسساتها، والهنود يشكلون أكبر عدد من الأطباء غير الإنجليز في بريطانيا.
ولا تقرأ في صحيفة هندية - حتى الشيوعية - اتهاما للحكومة بالخيانة لمن باع الاستثمارات للإنجليز (في الهند ثلث مليون بريطاني أبيض يعتبرون أنفسهم هنودا). ولا تسمع معلقا هنديا يذكر بريطانيا بكلمة سوء، ولم أصادف أبدا مقالة أو خبرا يلوم «الاستعمار البريطاني» في أي مشكلة تواجه الهند.
الهند يتباين فيها الفارق الهائل في الثروة، وتتعدد الأعراق والديانات، وهناك مشكلات اجتماعية لا تحصى، تتسبب في جرائم، كالتزوير وخطف الأطفال (بل وتشويههم لاستخدامهم في التسول)، وغيرها من مشكلات ملازمة للفقر، والطبقية والقبلية، ومع ذلك لا تجد معلقا هنديا واحدا يرجع مشكلة واحدة إلى الاستعمار وزمن الاستعمار.
قارن ذلك بالحالة المصرية. مصر استقلت عام 1922، قبل الهند بأكثر من ربع قرن. وكان الزعيم الهندي العظيم المهاتما غاندي طلب النصح والمشورة من زعيم الأمة المصرية سعد باشا زغلول، بعد نجاح ثورة 1919 واستقلال مصر وبناء نظامها الديمقراطي، وسأله كيف تمكن كزعيم للأمة من توحيد كل أبناء وبنات مصر، عندما كان اليهود والمسيحيون، أقباطا مصريين أو أوروبيين، من قادة ثورة 1919، وانتخبوا أعضاء برلمان مصر، وخدموا كوزراء في الحكومة؟
غاندي طلب من سعد باشا أن يرسل إليه الوصفة السحرية لنهضة مصر، كي يتبعها. وبالفعل، عندما بدأ غاندي حركة العصيان المدني والمقاومة السلمية ورفض العنف، اتبع نصيحة سعد باشا بأن يعمق إحساس القومية الهندية وأن يشعر الجميع بأنهم هنود، لا سيخ أو هندوس، أو مسلمون أو براهما. وبالفعل، باستثناء بضع حوادث، تعامل معها غاندي، وتلميذه جواهر لال نهرو، بحسم، حققت الهند الاستقلال بالطرق السلمية، بعد استقلال مصر بأكثر من ربع قرن. اليوم الهند سبقت مصر (حيث نسبة الأمية تفوق 72 في المائة، ووفيات الأطفال 25 في الألف) بأكثر من قرن كامل، على طريق التعليم والحضارة والديمقراطية والنمو الاقتصادي والقضاء على شلل الأطفال.
ولا شك طبعا أن كارثة انقلاب يوليو (تموز) 1952 ومغامرات الكولونيل عبد الناصر العسكرية، ومعاداته للعالم، ودولة القمع البوليسية، لعبت الدور الأكبر في إهدار ثروة مصر وإضاعة قدرات أبنائها في حروب الغير، وفي أطماعه، لكن لا يجب إغفال عقدة حمل المصريون والأفارقة والعرب أنفسهم بها، فأصبحت كحجر الطاحونة فوق صدورهم. عقدة خداع الذات في تحميل «الاستعمار» أسباب التخلف الذي يعانونه.
عصر النهضة المصرية (منتصف عشرينات القرن الماضي)، حيث كان الاقتصاد المصري في مقدمة اقتصادات العالم (عشية انقلاب 1952 كانت بريطانيا مدينة لمصر بما يزيد على 900 مليون إسترليني بالقيمة الحالية)، وكان المتعلمون وأصحاب المهارات الأوروبيون يهاجرون إلى مصر لتحسين فرصهم المعيشية والبحث عن حياة أفضل ومجتمع متحضر - وهي الهجرة التي بدأت منذ بناء الخديو إسماعيل مصر الحديثة - وكان الأرستقراطيون اليونانيون يرسلون أولادهم للدراسة في الإسكندرية (كملكة إسبانيا الحالية صوفيا التي أرسلها أبوها ملك اليونان إلى كلية إسكندرية الإنجليزية للبنات EGC، أفضل مدرسة بنات في حوض المتوسط)، وحكام الهند الإنجليز يرسلون أولادهم إلى كلية فيكتوريا في الإسكندرية.
وضع مصر الاقتصادي الحضاري المتقدم كان أثناء العهد الذي يخدع نظام 23 يوليو الناس به بتسميته «العهد الاستعماري»، في حين لم تكن مصر أبدا (أو أي من البلدان العربية) مستعمرة تاج بريطاني كحال الهند. بل كان البريطانيون في قواعد عسكرية، تحددت إقامتهم فيها بمعاهدة النحاس باشا مع بريطانيا عام 1936، التي حددت إنهاء الوجود في القواعد بعشرين عاما (انسحب آخر جندي بريطاني في 18 يونيو «حزيران» 1956، أي 20 عاما من تاريخ توقيع المعاهدة، على الرغم من تزييف ديكتاتورية العسكر مناهج الدراسة والادعاء كذبا إخراجهم الإنجليز), في حين أن الانهيار الكارثي الاقتصادي والأخلاقي والفساد وانحدار مصر إلى الفوضى والشمولية، التي تهدد بتحويلها إلى إيران ثانية، كله تفاقم في عصر «التحرر»، أو ما بعد الاستعمار.
ومصر لا تختلف حالتها عن أفريقيا وكثير من البلدان العربية، في رفض مواجهة الذات بالحقيقة التاريخية بأن مشكلات مصر سببها المصريون أنفسهم وليس الاستعمار، وحتى يتعلم المصريون (والأفارقة والعرب) الحكمة من الهنود بمواجهة أنفسهم بالحقائق بدلا من لوم استعمار لا وجود له، أخشى أن يتكرر هذه المقال بعد 10 سنوات تكون الهند قد سبقت فيها مصر وأفريقيا بقرنين لا قرن واحد.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط