نعم .. القطاع الخاص ليس جمعية خيرية .. ولكن!
لا يكاد نقاش يدور أو ندوة تُعقد أو مقال يكتب حول دور القطاع الخاص في تشغيل القوى الوطنية وإزاحة عبء البطالة عن كاهل الوطن، إلا ويأتي مَن يقول: إن القطاع الخاص ليس جمعية خيرية.. وهذا قولٌ لا غبار عليه، ونتفق معه ونقر به.. لسبب جوهري هو أن القطاع الخاص يستهدف من وراء منشآته أساسا تحقيق الربح وتعظيم استثماره وهذا حق، بل هذا ما يبرر وجوده، فمن دون ربحية لا يحدث أي تقدم في النشاط الاستثماري، ولا توسع في مجال الأعمال، ولا يكتسب اقتصاد الوطن أقياما مضافة إليه من خلال هذا القطاع.
لكن، مع فتح النظر، وليس غضه، على هذه المسلمة البدهية التي لا جدال فيها.. يمكننا هنا أن نسأل: هل قطاعنا الخاص هو حقا ابن ذاته؟ أي هل نما وترعرع واشتد عوده وأصبح له حضوره فقط بفعل نشاطه الذاتي وبفعل موارده الخاصة؟ ولكي نمضي أبعد في السؤال: هل قطاعنا الخاص شبيه من حيث النشأة والتكوين بقطاع أوروبا الخاص أو قطاع أمريكا الخاص أو قطاع ماليزيا وسنغافورة ... إلخ؟ نظن أن هناك تباينا من حيث النشأة والتكوين ومن حيث النوعية والكفاءة والجودة.. فمعظم القطاعات الخاصة في العالم حفرت في الصخر علما وممارسة وتمويلا حتى تصبح كيانات معتبرة لها شخصياتها المؤثرة جدا في الخدمة والإنتاج، وهي قطاعات خاصة بنت مؤسساتها بعرق الجبين في كدح وتعب وجهد ذاتي ومخاطرة أيضا لتكوين نفسها حتى وصلت إلى مكانتها السامقة بقدراتها الذاتية، وطبقت في سبيل ذلك مسارات منهجية قائمة على الرؤية والتخطيط لها بالمعرفة والعلم ووضوح الأهداف، فإذا بكل منشأة تملك امتيازات تنافس بها غيرها في شخصية مستقلة وصارت لها جاذبيتها في أن تكون محل الثقة، لكي يوكل إليها النهوض بعمل محدد وفق عقد سواء مع الدولة أو غيرها.
أما قطاعنا الخاص، ففي معظمه نشأ في حضن الدولة ورعايتها له ودعمه وتشجيعه من خلال منحه فرص القيام بمشاريع كان فيها الحافز المالي مجزيا جدا فوق التسهيلات التي تصل حد ''تدليع'' هذا القطاع.. وكان هذا قد بدأ في طفرة السبعينيات من القرن الماضي وما زال ساري المفعول إلى يومنا هذا.
غير أن قطاعنا الخاص، (إزاء هذا السخاء في أقيام العقود والسماحة في التسهيلات) بدلا من أن يستثمر تكوينه الرأسمالي والفني الذي كانت الدولة السبب الأساسي فيه، استمرأ حالة المقاول والحوافز وظل في إطار ممارسة الجاهز اليسير من الأعمال المقاولاتية وأشباهها من خدمية وصيانة وبعض الصناعات الخفيفة والاستهلاكية دون أن يتجاسر على تحمل دوره الوطني المأمول في التحول إلى قطاع إنتاجي، يستهدف مشاريع صناعية وتقنية تجعل من تكوينه الرأسمالي أصولا إنتاجية وليست مدخرات بنكية أو باحثة عن استثمارات جاهزة في الخارج.
إن نصف قرن من عمليات التنمية ضخت فيه الدولة ما يقارب تسعة تريليونات في مشاريع وبرامج الخطط، كان نصيب القطاع الخاص فيها نصيب الأسد، وكان الأولى أن يبادر هذا القطاع نحو مشاريع صناعية وتقنية مالكة لكل أسباب البقاء والنمو، مانحة اقتصاد الوطن فرصة الفكاك من اعتماد على موارد النفط إلى اعتماد على قاعدة اقتصادية متنوعة، فيها الإنتاج سيد الموقف وفيها المواطن صانع هذا الموقف عوضاً عن أن يظل مستنفدا في أعمال إدارية هامشية فيها رب العمل أسير الحسرة على دفع مرتبه!
إنه إذا ما كان القطاع الخاص ليس جمعية خيرية، فقد كانت موارد الدولة نفسها أشبه بجمعية خيرية لهذا القطاع، لأن ما أعطته الدولة له على أساس حفزه على الانخراط في بناء هيكل تنموي منتج تم التملص منه بالعمل اليسير الجاهز، مما لا يتطلب تخطيطا مضنيا ولا علما صرفا.. ولذلك وجد ''إدمان'' الاعتماد على العمالة الوافدة ترسخه في عقلية القطاع الخاص.. وفي أعمال لا تحتاج إلى كبير عناء وإنما ما هو استهلاكي مضمون الربح الوفير، دون تكاليف أجور عالية ولا تبعاتها في الالتزام بمسؤولية شروط العمل.. فالعمالة الوافدة خفيفة الوطأة على الجيب خفيفة المسؤولية؛ صرفها ليس كصرف مواطن!
من المؤكد أن للقطاع الخاص بعض المحطات المشمسة وبعض الرجالات ممن سعوا لترسيخ نموذج صلب لمنشآت خاصة منتجة.. لكن ذلك شيء، والظاهرة شيء آخر.. وما من سبيل لكيلا يكون القطاع مأزوما من مطالبته بالسعودة.. ولكيلا يولول من أنه ليس جمعية خيرية.. سوى أن يدرك هذا القطاع نفسه، أن هذه الأعمال العادية في نشاطاته ستظل بمنزلة إضاعة فرصة تاريخية في عدم التحول إلى عالم الصناعة والتقنية أسوة بقطاعات خاصة كانت أسوأ حالا وأسوأ ظروفا.. ولم تجد من دولها أموالا هائلة صبت في منشآتها كانت بالنسبة لقطاعنا الخاص بمنزلة أموال جمعية خيرية لم تتردد الدولة في توجيه خيراتها، انطلاقا من حماستها وقناعتها بأن مال الوطن للوطن.. فهل يدرك القطاع الخاص ذلك؟!