خالد رُوشه | 18/7/1433 هـ
الناجحون في حياتهم ، يعتمدون بالأساس على صفتين محوريتين لنجاحهم ، هما العلم والإرادة , وعلى أساس هاتين الصفتين تتفاوت مقامات الناس ومنازلهم ..
فمنهم من هو قليل العلم ، ضعيف الإرادة ، وهؤلاء هم أقل الناس قدراً ، ومنهم من لديه علم ولكنه ضعيف الإرادة والعزيمة ، فهذا سيظل محبوساً في سجن ذاته ، غير مستغل لقدراته وإمكاناته ، ومن الناس من هو ضعيف العلم لكنه كثير المجهود ، فهو يتخبط بجهده غير مستوضح هدفه ولا سبيلة , وأما كمال مقامات الناس فهي إنما تتحقق بالعلم والعزيمة عندما يجتمعان .
إن اتصاف المرء بالعزيمة والطموح في ضوء نور معرفته لهدفه وسبيله ، هوأقوى ما يمكن أن يتصف به فاعل ومؤثر ..فالعزيمة تدفع وتقوي ، والطموح يبشر ويجذب نحو الهدف المعلوم ..
كثير من المتساقطين في سبيل الحياة إنما يعود سبب سقوطهم لضعف عزائمهم ، لأن معوقات الحياة كثيرة ، وهي أكثر لمن أراد التغيير ، فإذا كان سير الإنسان ضعيفاً وقوته ضعيفة وهمته ضعيفة فهو عندئذ نهب مستباح لذئاب العالم وقاطعي الطريق .
وقد أدرك النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم ، ومن ثم انطلق في حياته من عزيمة لا تعرف الكل , وعمل على تقوية العزائم في نفوس أصحابه وأمته ، وحاول جاهداً أن يجعل لهم طموحاً متدرجاً نحو معالي الأمور ، وكان كثيرا ما يقول في صلاته يدعو ـ " اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد" .
ويسأل ربه أن يثبته على ما تحقق من إنجاز ، وأن يعطيه العزيمة على إكمال السبيل ، سائلا ربه أن تكون عزيمة رشيدة نافعة حكيمة عليمة ..
المنهج الإسلامي حرص على بناء نفوس الأمة ، على أن تكون نفوساً قوية أبية , تملؤها الإرادة ، ولا يفت فيها الألم ، ولا تتأثر بكثرة الضعفاء من حولها ولا بكثرة الأعداء حولها ، وفي كل ذلك يربطها رباطا ًربانياً بإله السماء سبحانه ، وههنا موقف يبين تماما ما نريد شرحه وبيانه :
أوذي المسلمون في غزوة أحد - الغزوة الثانية التي لقي فيها صلى الله عليه وسلم أعداءه – وجرح النبي وقتل عمه حمزة وآخرون ممن كان يحبهم ومثل أعداؤه بجثث أصحابه وأحبابه , وجرح هو جروحا متكاثرة وألمّ الألم والحزن بجميع أصحابه , فمنهم من قتل ، ومنهم من جرح ولا يزال جرحه ينزف دماً ، ثم تنزل آيات القرآن على محمد يقرؤها على أصحابه وهي تقول : " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " , فلا ينبغي عليكم أن تهنوا أو تحزنوا فيقعدكم الوهن أو الحزن عن سبيلكم الذي اخترتموه وهدفكم الذي سعيتم إليه.
وبالفعل ، فقد دفن المسلمون أحزانهم في قلوبهم ، ولم يستسلموا لمصابهم الذي حل بهم , وكان هذا الأذى الذي حدث للمسلمين في أحد فرصة انتهزها المنافقون وأعداء محمد ليقضوا عليه وعلى دعوته ، وغلت مراجل المدينة والقبائل من حولها ترجو القضاء عليه ..
إن أشد أعداء المرء هو انهزامه النفسي وضعفه الداخلي وعدم قدرته على تحمل الألم , فيصاب عندئذ بالنكوص والقعود .. لذا فقد اهتم محمد - رغم ألمه وجراح رجاله - أن يعيد لهم توازنهم النفسي والقلبي ويخلصهم من أية آثار لما يمكن أن يكون انهزامية داخلية ..
وعندئذ رأى صلى الله عليه وسلم أن يعيد تنظيم رجاله على عجل ، وأن يتحامل الجريح مع السليم على تكوين الجيش من جديد ، ليخرجوا في أعقاب عدوهم ليطاردوهم ، ويمنعوا ما قد يجدون من تكرار عدوانهم عليهم .
وقد رأى عندها زعيم قريش أن يرسل الرعب والخوف في قلوب أصحاب محمد ليعمق عندهم شعورهم بالانهزام ويستغل كونهم جرحى و قتلى ، فأرسل رجالاً إليهم يخبرونهم أن قبائل العرب أجمع قد اجتمعت مع قريش ليستأصلوا شأفتهم وأنهم في الطريق إليهم !
بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو في تلك الحالة – قبل التحدي ، وجمع أصحابه في مكان يسمى " بحمراء الأسد " ،ثلاث ليال كاملة يرفعون فيها الرايات ويستعدون للقاء عدوهم ويعلنون صلابتهم وعزيمتهم ، حتى نزلت الآيات الكريمات وقرأها محمد على أصحابه , " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ..
لقد كان من أعظم مكاسب ذلك الموقف أن استرد المسلمون عزيمتهم وقوتهم النفسية وتخلصوا سريعا من آثار الهزيمة , وانطلقوا من جديد نحو مسيرتهم ..
العزيمة عمل قلبي بالأساس ، وإذا فقد القلب عزمه خارت قوى الجسد مهما كان قويا ، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة ولكن تقويها عزيمة القلب وتصلبها إرادته ويدعمها طموحه .
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يركز في توجيهه لأصحابه نحو بناء العزيمة في نفوسهم ، أن قلوبهم صاحبة القول النهائي في ذلك ، وأنه لابد من همه القلب قبل همة الأعضاء ..
إنه في مواقف كثيرة ، يخبرهم ، أن المرء قد يبلغ الدرجات العلى بهمه قلبه ، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده , يقول في حديثه : " من هم بحسنه فلم يعملها ، كتبها الله عنده حسنه " .
بل قد يتفوق المؤمن الفقير بهمته العالية على الغني كثير المال كما في قوله : " سبق درهم مائة ألف درهم " ، قالوا : يا رسول الله ! كيف يسبق درهم مائة ألف ؟ " ، قال : " رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، فأخذ من عرْضها مائة ألف " .
فلكأن الإسلام هنا يبين أن الطريق إلى الله إنما يقطع بقوة العزيمة وعلو الهمة وتصحيح النية ودفق الطموح ، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية ..
إنه يُعلمهم أن إرادة المرء تذهب مشقة الطريق ، كما يعلمهم أن ضعف العزائم من ضعف حياة القلوب ، وأن القلوب كلما كانت أتم حياة ، كانت أكثر همة وعزيمة ، وكما أن عزيمة القلب هي دليل على حياته ، فإنها في ذات الوقت سبب إلى حصول حياة أكمل وأطيب , فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية ، والمحبة الصادقة ، والإرادة الخالصة ، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة ، وأخس الناس حياة أخسهم همة ، وأضعفهم محبة وطموحاً
إن الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب ، يصيبهم الخور كثيرا , ففي كل فترة يحتاجون إلى بداية عزم جديد ، وقد تنكسر منهم عزائمهم وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة ..