عرض مشاركة واحدة
  #14 (permalink)  
قديم 16-06-2013, 03:50 PM
الصورة الرمزية دآنيال
دآنيال دآنيال غير متصل
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
الدولة: لا أعلم
المشاركات: 730
معدل تقييم المستوى: 21474866
دآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداعدآنيال محترف الإبداع

- 7 -

بقلم الصديق العزيز / مانع ال دواس
- مسافة جدار


[align=justify]
المسألة كانت تتعلق بسؤال بسيط ، هل ما يحدث حقيقي !

هذا السـؤال في شكله المبدئي أتى ثلاث مرات وعلى ثلاث مراحل مختلفة، وفي كل مرة تأتي الإجابة واضحة ومقنعة ومستجيبة تماما لقوّة حضور السؤال حينها. بيد أنها في المرة الثانية وهي محل الحديث هنا أتت بشكل غريب، ربما أنها وصلت الإجابة جيداً لكنه لا يدري أين اوصلته تلك الإجابة، والتي أودت بالسؤال إلى قعر عميق، وأحالته شيئاً آخر تماماً في شكله النهائي.

كان قد مضى عليه حينها شهرين، أو أكثر أو أقل، حقيقة أنه لا يدري كم بالضبط، ليس إهمالاً أو لا مبالاة أكثر منه رضوخاً لحالة التشويش التي يعيشها. كان عليه أن يستحم، ولكي يستحم الشخص لا بد أن يذهب إلى أحد الحمامات الأربعة فقط، التي تغطي إحتياج أكثر من مئة وخمسين مثانة وجسداً متسخاً متعطناً من رائحة المكان، ورطوبته النتنه التي تحيا بين جدرانه في سبات قوامه عشرات السنين، غرف تلتصق بعضها ببعض في خطين عموديين متقابلين تفصل بينهما مساحة صغيرة لا تتجاوز ثلاثة أمتار، لم تطأها أشعة الشمس قط، هي وأغلب المساحات في المكان، وفي طفولته مد له أبوه معلومة بأن الشمس تطهّر ما تقع عليه عينها. وذلك المكان في أغلبه كان نجساً إذ أن عين الشمس تقصر عنه، تضاجع كائناته بعضها بعضاً، يُسمع أحياناً فحيحها وهي تنثر مياه الرذيلة في أحشاء بعض.. إما في حمام الركن أو تحت أحد الأسرّة المغطاة بقطع قماشٍ بالية ومتّسخه.

كان المكان يزدحم بالكثير ومن كل الطبقات وتحت تلك الأسقف العارية - إلاّ من سحابة دخان تعانقها - لا يختلف فرد عن فرد ولا يفرق بين كل الطبقات سوى ما يفكرون فيه.

ضوء الشمس الذي لم يكن يصل إلى الكثير من مساحة المكان وفضائه تركه مرتعاً للظل، وإستمرار الظل برد، وزمهرير.. وزمهرير ليست مجرد برد قارس، بل عفن متكدّس في طيّات الظل والبرودة والهواء الآسن. وبقايا آلاف الأجساد التي مرّت من هناك ما زالت هناك، ولن تبرح المكان، رحلت وخلّفت بقاياها لتلتحم مع السقف والحيطان والأرضية الميّتة وتنتج مائدة يتكرر كسادها كل لحظة. ومن حولها تتحلق الأجساد الحاضرة مؤخراً لتطرد قيء الأولى وروائحها الكريهة وتكنس أماكن تضاجع أشدها عُهراً ودون اكتراث يشبه كثيراً لا مبالاة الحارس أمام المكان وخلف الباب المشوّك من الجهة الأخرى للحياة أو العدم. هناك حيث يقف كجدار يفصل مدينتين.

كان عليه أن يدرك تماماً أنه هناك، وأنه هو ذاك الذي كان خارج المكان قبل شهرين فقط تزيد أو تنقص، والإدراك ليس فقط مجرد معرفه، أبعد من ذلك إلى اليقين والتثبت، وهز الرأس بثقة ورويّة وهدوء وتعمّد دلالة على الإستجابة، وإن كان مصحوباً بألم وضيق تنفّس. وحين ينظر للجدار يدرك أنه بضآلته يشكل كل تلك المسافة القائمة بين الزمنين والمكانين والشخصين الذين يتصارعان داخله.

إتجه إلى الحمامات القذرة، في إحدى يديه إبريق، من إبريقين يستخدمهما أفراد حجرةٍ لمّت كل الطبقاتٍ المعروفة لديه والمجهولة تماماً، والتي يظن الشخص أنه سيظل فقط يسمع عنها، أو عن أعمالها و سلوكها.

كانت تلك الحجرة مأوى للنوم فقط، والنوم يكون في منتصف أرضيتها تماماً، تلك المساحة التي بالكاد تحصّل عليها بين زحام الأجساد، وحين يمد الشخص ظهره يتحسس من خلال السجاد المسحوق تحته تفاصيل بلاط أرضيتها، يتدثرون أغطية مرّت على الكثير قبلهم ولا يُدرى كم من القاذورات مرت بها وكم ذابت تحتها من الشهوات الشاذة، وهل يكفيها ما تشربته من ماء الغسيل الدائم وصابونه، أم أن عين الشمس يجب أن تمرّها ألف يوم لتطهُر. أم أن يوم طهورها هو يوم أن تلقى في سلة القمامة كمصيرٍ أخير متوقع.

أخذ ذلك الإبريق الأحمر، ومضى ليجد أمامه طابوراً صغيراً، البعض هناك يجب أن ينتظر في طابور من الرجال كي يستفرغ غثاؤه، والبعض الآخر تدل المناشف المعلّقة على أكتافهم - وكأنهم بائعي خرق ملونه جائلين - بأنهم يريدون الإستحمام.

لسوء حظه أن أربعة ممن سبقوه كانوا يريدون الإستحمام وهذا يعني إطالة أمد الإنتظار أكثر بعد ذاك. كانت ملابسهم ومناشفهم تتدلّى من الأبواب المتعرّين خلفها، بعضهم لا يُلاحظ أنه يريد الإستحمام، والعٌرف هناك يشير إلى أن حمامين للإستحمام وآخرين لقضاء الحاجة، كان عُرفًا يبرز وقت الزحام. وتلك الليلة لم يكن هنالك ما يستدعيه، وأحدهم يوهمهم وبحيلة متكررة عدم رغبته الاستحمام في حين كان يلوي خصره تحت ثوبه بمنشفته. ولم يُدرك إلا والثوب والمنشفة مدلاّة من خلف الباب، لا بأس دقائق هي من الأنتظار لا أكثر.

تلك الأماكن لا تحتمل أكثر من دقائق معدودة، كان يضع المنشفة على رأسه بشكلٍ ملفوف وكأنه مهراجاً هندي، بيده إبريقه الأحمر، وملابسه هي هي لن يغيرها، فقط يريد الإستحمام فليس المجال بسانح للترف والتغيير الدائم للملابس.

وحين أتى دوره ودلف المكان، أدرك أن ذلك المتر المربع هو المكان الأوحد على الإطلاق في مساحة العطن والرطوبة والظل الدائم تلك الذي قد نستطيع قول (خاص) عنه. هناك حيث يأتي حمام الركن تماماً تحت الكاميرا المعلقة في الزاوية، وما هو تحتها بشكل عمودي فإن عينها الأفقية لن تراه، وسيوفّر على عين المتلصص من خلفها رؤية النص الأعلى من جسد المستحم العاري.

خلع ثوبه وعلّقه على الباب بشكل يغطي كامل مساحته العلوية ومن ثم علق منشفته على جزء منه واضعاً في الحسبان أن يكون الثوب واقياً لها من براثن الباب المتآكلة أطرافه بفعل تطايش الماء فغدى كجذع خشبي نخره الضمأ والسوس وطول الأمد ولم يسقط بعد، خلع لباسه الداخلي وكان الإبريق قد بدأ يعبٌّ ماء الصنبور المدار، علق اللباس على الجزء المتبقي من مساحة يحميها الثوب فوق الباب، وعاد ليتجلّى أمام نفسه كطفل صغير، واجه نفسه، قابلها كأول مرة لضرير تفتح عينيه فجأة أمام مرآة.

تحسس جسده كاملاً، يديه بيديه، من أسفل الإذن والرقبة، وأعلى الكتف، ومفصله حتى المرفق والساعد، ودوّر بأبهامه والسبابة على المعصم، حتى تشابكت رؤوس الأصابع.

تلمّس صدره، بطنه، إستدارة خاصرته، فخذاه ورجولته، وانحنى باليدين على الركبتين فالساقين، وتمنى كثيراً لو تحرر من الحذاء لولا قذارة الأرضية التي تلمع بفعل الماء الذي لا يفارقها أبداً ـ وتدس بين أعطافها كل نجاسة الدنيا.

عاد بنفس الكرة من أسفل لأعلى هذه المرة وكان الماء قد بدأ ينضح من رأس الإبريق وفمه، ما إن رجع لاستقامته حتى انحنى على الإبريق ودلق ما فيه دفعة واحدة فوق رأسه، لم يشهق، ولم يرتعش جسده، وكأنه أنكر هذا الماء أو لم يتعرف عليه، ولم ينبس ببنت نفس نشاز. نزح عن عينيه الماء وما يتقاطر من مقدمة شعره، وأعاد الإبريق تحت دفق الصنبور ليمتليء من جديد، فضّل أن يتخذ وضعية الجالس، وصار يسكب الماء دفعة واحدة فوق رأسه ويتلذذ بخط مساٍر يرسمه فوق أنحناءة الظهر، ومع كل إغماضة صغيرة فور تدفق الماء وإنحباس النفس قليلاً يبرز سؤاله أمامه: هل أنا فعلا هنا.. أنا.. أنا؟

هل ما زلتُ أنا أنا ذلك الذي كان يعيش في ذلك العالم الحقيقي. سؤال الشاب الطموح، المقبل على الحياة لم يكن سطحياً، كان أعمق بكثير، ولم يكن التساؤل موجها للجدران التي نبت فجأة من حوله وحاصرته، حتى وضعته في مساحة حرية لا تتعدى متراً مربعاً واحداً فقط. كان مقدمة لسؤال وجودي كبير، من أنا في هذه اللعبة الكبيرة، ولم أنا بالذات!

في تلك اللحظة؛ الماء المتدفق، كان بقوة موج هادر، وبإستمرارية شلال مائيٍ خالد. ينثال فوقه فلا يتوقف وكأن آبار الأرض كلها إجتمعت لتملأ ذلك الإبريق.

وكان في الأعلى تحت كاميرا الزاوية فوراً، يرى ذلك الشخص الذي ينحني بإستحياٍء تحت وشل ضئيل متقطعٍ من إبريقه الأحمر فلا يستمر أكثر من خمس ثوان. كان أول من رآه وأول من عرف الإجابة.

بعد أن إنتهى، أخرج من أعلى الباب بإحدى يديه الإبريق طالباً المساعدة، وهنالك على الدوام من هو مستعد للمساعدة ممن يقف بالطابور أو ممن يغسل يديه أو ملابسه أو ممن يفر من نفسه إليها، سأله أن يملأ الإبريق من الماء المحلّى، من صنبور يتيم خصص لماء الشرب، ليغسل برويةّ ما تعلّق من أملاح الماء القادم من خزّان قديم بالجوار، يقف كشاهد صامت و حزين، تملأ الطحالب جدرانه الداخلية.

نزح عن عينيه الماء ومقدمة شعره، وإرتدى ملابسه دون أن يتجفف وجر نفسه للحجرة كي ينام وكأنه لم ينم منذ دهر. وحين يصحو يدرك أنه كان ينام كل يوم ويصحو كل يوم. وقته كله رهين ذلك المنوال، ولكنها الرؤية التي تتبدّل والصورة التي تتشكّل لتدفع بكرة التساؤل قُدماً ولتحاول محو أثر التشويش الضاغط وتعطي للسؤال أكثر من إجابة، وتريح النفس من التوتّر ولو كذباً، في مهرب روحي من خلال التأمل أو تصنّعه, وإن برز أمام الباب الحارس بلباسه الكاكي أشاح ببصره عنه نحو أفق لا يسدّه بابُ مشوّك أو سجّانٌ مترصّد، وإن قفزت أمام باب حجرته كائنات رثّة أو تساؤلات مرّه نثر ملح تفاؤله فوقها ومضى.

[/align]