البقعة العمياء:
إسقاط القطاع العائلي من الحساب الاقتصادي الوطني الجاري
الأخت الفاضلة أمل متجدد،
أشكر لك طرح هذا الموضوع الهآم. وأشكر أيضاً التفاعل البنّاء والمساعي الحميدة لجميع الأخوة والأخوات الأكارم.
لقد كتبتُ سابقاً مسألة نظرية في علم الاقتصاد. وإنني أريد الرجوع إلى كتابتها مرة أخرى لأهميّتها العلمية بشيء من الإيجاز، لأن الخوض فيها لأهل الاختصاص اعتباريا:
وهي:
أهمية رفع/ ترقية/ إعادة صنع / تحديث/ تجديد/ خلق/ الأهليّة (= الرشد؛ = العقلانية؛) الاقتصاديّة للقطاع العائلي(المنزلي) كشرط أساسي للنموّ الاقتصادي في هذا القطاع الذي بدوره يدفع تلقائيا لتصحيح التوزيع غير العادل لمكاسب التنمية الاقتصادية؛ وتقليل حدة الفوارق في الدخل والعوائد والثروة بين شرائح هذا القطاع.
عندما تهتم الحكومة بهذه المسألة الجزئية بالغة الحسّاسية في مستوى آثارها الإنتاجية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية بشكل قاطع ونهائي يتمّ السيطرة جذريًّا على مشكلة تدنّي الدخول حتى تصل درجة العوز والفقر المدقع لدى القطاع العائلي (المنزلي)(*).
ولكن للأسف! لا تعير الحكومة انتباها كافيا لهذه المسألة بداوع تتعلّق مبدئيّا بشكل وخصائص النظام الاقتصادي المعلن بدور محدود للدولة؛ ثمّ سّياسيّا ودوليّا ذات صلة بتقييمات دولية تتعلّق بالتحرير الاقتصادي وتكييف الاقتصاد المحلّي نحو المزيد من التحرير الاقتصادي بغياب شبكات دعم ومساندة لرشده الاقتصادي الذاتيّ.
ومشاركتي هنا ليست مخصّصة في البحث والتحقيق عن مسألة حدود ومجال البقعة العمياء وانعدام الرؤية لدى الحكومة عندما يتعلّق الأمر بالمشكلات الاقتصادية للقطاع العائلي(المنزلي).
ولكنّي أقدّم إشارة سريعة هنا.
إن أغلب المواضيع المطروحة في هذا المنتدى - تحديدا - تبدو وكأنها تكتب وفق نمط واحد وإشكالية أساسية يدور مجال الحديث حولها. وهي غياب الأهليّة الاقتصادية أو العقلانية الاقتصادية عند اتخاذ القرار الاقتصادي بالنسبة للقطاع العائلي المنزلي.
أمثلة للتوضيح والفهم:
أ - طالب ثانوي ولدى خبرة بالعمل المهني في الوقت الحالي:
خيارات العقلانية الاقتصادية:
# هل أدرس بالجامعة طالما درجاتي مرتقعة؟
# أم أستمر العمل بالورشة وأتخصص مهاراتيّا وخبراتيا في هذا المجال؟
ب - موظفة في القطاع الخاص، وأرغب في الحصول على عقار:
خيارات العقلانية الاقتصادية:
# هل الوضع الأجدى اقتصاديا الاستمرار بالإيجار لمدة خمس سنوات المقبلة حيث يتحسن بعض المؤشرات الدخل، والمعلومات،... مثلا؟
# أم شراء منزل في مكان نائي أو حديث السكن من حيث الموقع والخدمات من خلال وسيط عقاري.
ج - خريج/ة جامعة تخصص أحياء أو تاريخ أو أدب انجليزي، وأرغب العمل وفق شروط خاصة:
بدون اختلاط؛ أو في مكان قريب من السكن، أو الفترة المسائية،...الخ.
خيارات العقلانية الاقتصادية:
# هل أتغاضى عن الدخل المنخفض نتيجة الشروط الخاصة أو الأوضاع المؤقتة؟
# أم محاولة التنافسية من خلال تحسين الشروط وتكييفها لطالب العمل؟
د - ربّ عائلة لا يتوفر عنده قيمة الإيجار السنوي، وديون متعثرة،... علما أن الراتب الأساسي لا يغطي التكاليف والالتزامات الشهرية:
خيارات العقلانية الاقتصادية:
# هل استمر بتصعير خدّي للناس؟
# أم أقوم بجدولة مستحقاتي المالية من قبل وسيط أو طرف ثالث(غير ربحي: حكومي/ أهلي[**]) يساعد في إعداد الجدولة عند التزوّد بكآفة المعلومات المتعلقة بالدخل والثروة والانفاق والادخار...الخ؟ أو الاستفادة من بعض البرامج التي يطرحها الطرف الثالث(غير ربحي: حكومي/ أهلي) من خلال توفير " طرق خيرية" للمساعدة وتجاوز المنعطف لإنقاذ الأسر من الضياع والانهيار والأخطار الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
وكما تلاحظون من خلال الأمثلة البسيطة:
أن مسألة العقلانية الاقتصادية ليست مسألة مادية أصيلة رغم مظاهرها السلوكية التي تدل عليها. والقصد من كونها ليست مادية أصيلة حتى لا يحتكر مجالها المفاهيمي والنظري ومنفعتها الماديّة كمبدأ اقتصادي رشيد "قطاع الأعمال" فقط؛ فيصبح هو مصدّرها للقطاعات الاقتصادية الأخرى المتعددة، ومقوّم سلوكها، وضابط اتجاهاتها وفق عقيدة الربح والجودة والكفاءة من وجهة نظر أرباب العمل فقط.
إن مسألة العقلانية الاقتصادية هي أكبر من طاقة قطاع الأعمال، وإن كان قطاع الأعمال هو أكثر القطاعات الاقتصادية التي يبرز من خلالها الخيارات العقلانية الاقتصادية عند اتخاذ قراراتها الاقتصادية المثلى...
لأنّها مسألة نظرية - فكرية تاريخية تتعلّق بطبيعة وعي الجماعات البشرية لسلوكها الاقتصادي، ومن ثمّ تقويم المبادئ والمراجع والنظريات التي تحاول ضبط هذا الوعي ليستجيب لإشباع الحاجات بصورة رشيدة تعبّر عن قيّم متحضرة وذات طبيعية أخلاقية عليا للجماعات البشرية.
تأسيسا على ذلك، يبرز دور المفكرين الاقتصاديين أسوة بالمفكرين السياسيين والاجتماعيين، ودور صنّاع القرار والمبادرات -أيا كانت مواقعهم الاجتماعية - في التنظيم الاقتصادي: حكومة، فرد، بنك، التاجر، مؤسسة أعمال ...الخ لصياغة علاقات جديدة؛ وأدوار جديدة؛ وفعاليات جديدة؛ لمواجهة التحولات والتغيرات في البيئة الاقتصادية داخليا وخارجيا.
وهذه مسألة بحث علمي تاريخي - اقتصادي - سياسي في التحليل النهائي ينتج عنها أجوبة للتساؤلات العامة.
مثل:
لماذا القطاع العائلي المنزلي المحلّي لا يتبنى "فرضية الرشد الاقتصادي" عند اتخاذ القرار الاقتصادي لإشباع حاجاته؟ هل يرجع أن التحديث الاقتصادي لم يكن شاملا للقاعدة الإنتاجية؟
هل للنظام الاجتماعي دور مهم في غياب التفكير الاقتصادي العقلاني عند القطاع العائلي المنزلي، واقتصاره على فئات معيّنة ذات طبيعة خاصة....الخ؟!
و في هذا الصدد أيضاً، قدمتُ اقتراحا أوّليّا عند طرح هذه المسألة أهمية إنشاء مؤسسات حكومية وأهلية غير ربحية تدعم الأهلية الاقتصادية للقطاع العائلي المنزلي حسب نتائج البحوث الاقتصادية عن المشكلات الاقتصادية التي تواجه القطاع العائلي. يمكن التوسع ببرامج الأهلية الاقتصادية بصورة مؤقته لحين قيام إصلاح مؤسسي سياسي واقتصادي واجتماعي في البنى والعلاقات والأدوار والحوافز والقوى المسيطرة،...الخ على المستوى الأفقي والرأسي للمؤسسات المعنية.
مثل:
- توفير تنسيق بين المؤسسات الإنتاجية، ومستوى منظّم من المعلومات لتوفيرها للقطاع المنزلي.
- الحصول على أدّلة من قبل المؤسسات المتعددة للفرص والإمكانات والفجوات واتجاهات الطلب والعوائق...الخ.
- زيادة فعالية البرامج الخاصة والخيرية والتي تستهدف الفئات الأقل دخلا، فتضمن توفير تغذية أمامية وخلفية لجهة المستفيدين والمستحقين.
- توفير المؤسسة لسجلات الطلب والأداء الاقتصادي عن حاجات واتجاهات الطلب عند القطاع العائلي المنزلي، التي يمكن للمسئولين الحكوميين الاستناد عليها لمراجعة السياسات واتخاذ قرارات ذات طبيعة ملموسة في تحسين المعيشة.
فضلا إن إنشاء مثل هذه المؤسسات التي تساهم في تحسين مستوى المعيشة ودفع جهود التنمية المحلية عبر توفير معلومات وبيانات وخطط ودراسات أولية وتجارب وتفعيل البرامج الوطنية المتعددة، واستشارات ... سيحافظ على تماسك القطاع العائلي المنزلي من خلال وجود "وسط تنظيمي" يضمن شفافية ومصداقية والسّريّة عند الحصول على المعلومات من قبل القطاع العائلي المنزلي في كيفية تنظيم شؤونه الاقتصادية.
المسألة الأخرى التي أريد أن أضيفها أيضاً. هي "مسألة التوظيف الجهوي" وهي تعني أنّه من حقّ سكان منطقة أ يشتغلون في مدن ومحافظات ومراكز ونواحي منطقة أ.
وهذا الحقّ الجهوي الجغرافي له ما يبرره من اتساع رقعة النشاط الاقتصادي. كما أنه يساعد على توظيف الموارد البشرية المناطقية توظيفا جغرافيا أمثلا وإحلال العناصر المحلية بالأجنبية.
كما يجب أن تناقش هذه المسألة "إمكانية توفير النقل" للعناصر البشرية وخاصة النسائية.
وأخيراً، يجب أن تربط المسألة الجهوية بالتكليف الرسمي لحاكم المنطقة بحيث يتمّ إنشاء لكل منطقة وكالة حكومية متخصصة للتوظيف المحلّي والتنمية العمرانية. ويكون عمل هذه الوكالة ليس فقط توظيف الموارد البشرية من خلال مُعاينة الفرص والإمكانات وتوفير المعلومات من حيث التكاليف والدقة والتكافؤ.. وإنّما أيضا العوامل الأخرى من أرض وميزات نسبية لاقتصاد المنطقة، ويجب أن تربط مباشرة بحاكم المنطقة - لا أعرف كم مرّة ينبغي عليّ تكرار هذه الجملة -، وهي وكالة مستقلة عن وزارة العمل وهذه النقطة مهمة جدا. نقطة انفصال الوكالة عن وزارة العمل إدارة وتنظيما. ولكن يمكن عقد اتفاقات تعاون مع وزارة العمل من خلال تزويدها بالمعلومات وسجلات الأداء وبعض البرامج المشتركة.
تهدف الوكالة الحكومية المتخصّصة للتوظيف المحلي والتنمية العمرانية، توفير فرص العمل لسكان المنطقة ضمن مواردها الاقتصادية، وإزالة الفوارق في التنمية الاقتصادية الجهوية.
هذه الفكرة أيضا ليست مبتكرة، ولكن تساعد المسئولين الحكوميين على إيجاد أفضل المسارات لاستثمار وحدة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكل منطقة لتنمية الاقتصاد القومي بصورة تجعل الجميع يشعر بأنه مُساهم ومشارك أصيل في قطار التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة بإذن الله تعالى.
والسلام ختام.
هوامش:
(*) تعريف مبدئي للقطاع العائلي المنزلي - كقطاع إنتاجي - هو: مجموع الطلب المجتمعي الخاص للعائلات على الموارد الاقتصادية(المحدودة): عمل، رأس مال، أرض،... لإشباع حاجاتهم المتعددة وفق نظام اقتصادي للمجتمع يسمح بالتبادلات حسب طبيعة وخصائص السوق المحلّية ووفق التشريعات الحكومية المخصّصة لإجراء التبادلات. وأيضا مجموع ما يعرضه القطاع العائلي المجتمعي "الخاص" من فرص وإمكانات اقتصادية متعددة الجوانب ومبادرات خاصة لتغذية الاقتصاد القومي وتحسين دورة الأعمال والإنتاج في القطاعات الاقتصادية المتعددة للمجتمع.
(**) البنك يعتبر قطاع خاص عدا مؤسسة النقد العربي السعودي أو (البنك المركزي) -رغم أنه أي: البنك المعروف بصفة البنك عادة ما يدّعي أنّه طرف ثالث ووسيط آمن بين قطاع الأعمال العريض والقطاع العائلي المنزلي وهو يكذب بشأن هذا الادّعاء لأنّه يعتبر جزء لا يتجزأ من قطاع الأعمال الواسع وتنتفي عنه صفة الاستقلالية جملة وتفصيلا، ولكن يمكن تحقيق بعض الاستقلالية في البيئة ونظام الحوافز ولكنها متعذرة نتيجة واقع الاحتكار في قطاع البنوك - ، والمؤسسات المنثبقة من البنوك تجري عليها أحكام البنوك التي تستهدف تحقيق الربح كمنظومة عمل نهائية ونفعية.