"خليها على البركة" ثقافة المشروعات الصغيرة
غزة - أصر الفلسطيني "أبو السعيد " على خوض تجربة مشروع صغير لتربية الأغنام، على الرغم من نصح الكثيرين له للعدول عن الفكرة، نظرا لعدم توافر المعرفة أو الخبرة السابقة لديه.
خطرت فكرة المشروع على ذهن أبو سعيد من خلال نقاش مع بعض أصدقائه تناولوا فيه فوائد تربية الأغنام حيث الأرباح الطائلة التي يمكن لمربيها أن يجنيها خلال فترة وجيزة، وعلى الفور بدأ أبو سعيد في التنفيذ للفكرة فلماذا التأخير والمكان اللازم للمشروع متوافر، وهو عبارة عن قطعة أرض صغيرة يمتلكها خلف منزله الواقع وسط مدينة غزة المزدحمة.
وكعادة غالبية المواطنين العرب، لم يعدّ أبو السعيد "دراسة جدوى" لمشروعه الجديد أو حتى حاول تدوين حساب تكاليف المشروع وجدواه كتابة، بل اكتفى بحساب مشروعه بالكامل بـ " دماغه" وعلى الفور انطلق إلى سوق الأغنام، حاملا مبلغا من المال -هو كل ما يملك- وقام بشراء 15 رأسا منها، ممنيا نفسه بأرباح وفيرة من وراء هذا المشروع خلال فترة وجيزة.
وبعد أسبوع واحد فقط من بدء تنفيذ مشروعه، وجد الرجل نفسه في ورطة حقيقية تهدد مشروعه بالفشل، فقد قام-حسب اعتقاده-بحساب جدوى المشروع جيدا(بدماغه طبعا)، فكيف غاب عن باله هذا الأمر؟ وكيف سها عنه؟ إنه ثمن طعام الأغنام والخراف، الذي لم يقم بحسابه ضمن المشروع، فمثل هذا العدد من الأغنام يحتاج كمية كبيرة من الطعام يوميا وهو لا يمتلك المال الكافي لذلك بعد أن وضع كل ما يملك في المشروع.
في الأسبوع الثاني، برزت لأبي السعيد مشكلة ثانية لم يكن قد وضعها في حسبانه، تكاد تكون أصعب من الأولى، فالجيران بدءوا يشتكون من رائحة الأغنام والخراف الكريهة، ويضغطون عليه من أجل نقلها من حيهم السكني المكتظ.
وهنا لم يجد الرجل أمامه بُدا من إغلاق مشروعه وعرض أغنامه وخرافه للبيع لأول مشتر متكبدا خسارة مادية كبيرة، وخسارة معنوية أكبر تمثلت بضياع أحلام وآمال وضعها على هذا المشروع الصغير.
طموح.. ولكن!
وغير بعيد من أبو السعيد يقطن مواطن عربي آخر؛ يعمل مقاولا ويدر عليه عمله دخلا وافرا، لكن طموحه الكبير كان يدفعه منذ أكثر من 20 عاما إلى محاولة تطوير أعماله والبحث عن مشاريع صغيرة يمولها من المال الذي يحصل عليه من عمله، فنفذ في حياته عشرات المشاريع الصغيرة.. ولكن باءت كلها بالفشل، مكبدة إياه خسائر مادية ومعنوية فادحة.
ومن كثرة المشاريع التي حاول إقامتها لا يتذكر هذا الرجل أسماءها، فمرة افتتح "مطحنة" وأخرى افتتح "بقالة"، ومرة افتتح محل "أدوات صحية"، وكذلك "أدوات منزلية"، كما خاض عشرات المشاريع الصغيرة المتعلقة بالبناء والإعمار.
العامل الرئيس الذي جمع بين كل هذه المشاريع، هو أن صاحبنا كان يقوم بحساب جدواها في (دماغه) من دون استخدام أدوات القرطاسية من أقلام وأوراق، وما إن يبدأ في تنفيذ مشروعه حتى يكتشف أنه لم يكن قد انتبه لجزئية معينة، أو سها عن تكلفة ما تتعلق بالمشروع، الأمر الذي يؤدي لفشله، وهلم جرا.
غياب التخطيط
هذه القصص المحزنة والمؤسفة التي نشاهدها بشكل متكرر في مجتمعاتنا العربية تدفعنا إلى محاولة دراسة أسباب فشل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر والتي يحاول من خلالها المواطنون تحسين أوضاعهم المعيشية والمادية.
وحسب خبراء الاقتصاد فإن هناك الكثير من الأسباب المؤدية إلى هذه النتيجة المحزنة، لكن أهمها هو غياب عنصر "التخطيط" -سواء كان سليما أو غير سليم- قبل البدء في تنفيذ المشروع، حيث تنتشر ثقافة "خليها عالبركة"، و"ربنا كريم".
يوافق على هذا الطرح الدكتور فتح الله غانم مدرس الاقتصاد في جامعة القدس المفتوحة، والمتخصص في مجال المشاريع الصغيرة، حيث يؤكد أن عنصر التخطيط شرط أساسي لنجاح أي مشروع، وهو الأمر المفتقد في مجتمعاتنا العربية.
يقول د. غانم: "على سبيل المثال إذا كان معي 10 آلاف دينار وأتجه لتنفيذ مشروع تكلفته تصل إلى 15 ألف دينار، من دون أن أحسب تكلفة العمال، أو المواد الخام وبالتالي أؤسس مشروعا غير سليم، وحينما أبدأ التنفيذ أجد نفسي في ورطة وغير قادر على الاستمرار فيؤدي إلى فشل المشروع.. وكل هذا بسبب عدم التخطيط الجيد للمشروع".
النجاح لا يأتي بالتقليد
وينصح د.غانم أي مواطن يرغب بالبدء في تنفيذ مشروع صغير باتباع "التخطيط الجيد" ودراسة السوق ومدى حاجة السوق لمشروعه؛ حيث إنه إذا لم تكن هناك حاجة إلى هذا المشروع فعليه التوقف فورا منعا لمزيد من الخسائر.
ولتخطيط المشاريع الصغيرة عناصر، هي -كما يذكرها د.غانم - عنصر التنبؤ ومعرفة مستلزمات المشروع ومتطلباته وتحليل أسواق (دراسة عناصر القوة والضعف والمخاطر والفرص التي تلاقي المشروع).
ويشير هنا إلى مشكلة تقليد المواطنين لمشاريع بعضهم البعض، من دون التخطيط الجيد للمشروع، ويضيف "فعند وجود مطعم ناجح في منطقة جامعية مثلا، نلاحظ سعي البعض على الفور لافتتاح مطعم مثله في نفس المنطقة دون أن يخطط جيدا لمشروعه ويدرس السوق جيدا، ويدرس مدى حاجة المنطقة لمشروعه، فنجاح مشاريع مشابهة ليس شرطا لنجاح المشروع المقلد".
إعداد الخطة
وفي ذات السياق يرى الدكتور يوسف عاشور أستاذ الإدارة بالجامعة الإسلامية بغزة أن أسبابا كثيرة تقف وراء فشل المشاريع الصغيرة ويجمع بينها غياب التخطيط.
ويقول "من أمثلة غياب التخطيط السليم، زيادة المصاريف عن الحد المعقول واستغلال أموال المشروع لغير أغراض المشروع, وأيضا تغير السوق بمعنى ضعف الطلب على منتجاته بالإضافة إلى فقدان الخبرة".
وأوضح أن التخطيط يكون مبنيا على "التنبؤ", الذي يجب أن يكون بحجم الطلب على المنتجات وأيضا التنبؤ على أذواق المستهلكين وما هي الأشياء والبضاعة المطلوبة في السوق, وبالتالي التحضير لها.
وينصح الدكتور عاشور كل راغب في تنفيذ مشروع صغير بالبدء في إعداد خطة ليبدأ مشروعه ويشترط أن يكون ممتلكا خبرة في مجال مشروعه، وألا يقتحم أي مجال لا خبرة له فيه. ثم عليه أن يدرس السوق وأن يبحث مدى الطلب على المنتجات التي سينتجها المشروع, والتأكد من أن السوق محتاج إليها أيضا, بالإضافة إلى دراسة التكلفة والعوائد المتوقعة... الخ
وأوضح أن دراسة الجدوى تشتمل ثلاث نواح: الناحية المالية والناحية الفنية وناحية السوق, ويجب استيفاؤها بالكامل.
التخطيط.. الشفاهي
ويحذر د.غانم بشدة من قضية دراسة المشاريع الصغيرة شفويا، وبدون مادة مكتوبة على وثائق ومستندات، حيث يطالب كل من يرغب بتنفيذ مشروع صغير أن يجري دراسة جدوى علمية، وأن يكتب على الأقل حسابات المشروع على ورق ومستندات.
ويشير إلى أهمية استشارة خبير سواء كان اقتصاديا أو أكاديميا أو رجل أعمال، أو مالك مشروع مشابه قبل تنفيذ المشروع حتى يرشده إلى الصواب على أن يكون الخبير ملما بأوضاع السوق وقادرا على منحه مؤشرات جيدة للمشروع.