من الملاحظ أنّ المتفوقين في الدراسة الثانوية يتوجّهون لدراسة الطب أو الهندسة مثلاً بينما أصحاب التحصيل العلمي المتوسّط يختارون مهنة التدريس مثلاً وأما من لم يوفّق بدراسته تجده يعمل كصاحب مهنة حرفية. في ظل هذا الوضع نجد أنّ سوق العمل أصبح يتكوّن من ثلاث فئات حيث تحتوي الفئة الأولى على “الوظائف المرموقة” بينما تحتوي الفئة الثانية على “الوظائف العادية” وأما الفئة الأخيرة فهي وظائف “مشي حالك”. يا ترى هل هذا الوضع يعود بالفائدة على المجتمع ؟ هل “التفرقة” بين الوظائف المختلفة هي أمر صحيح ؟ كصاحب تحصيل ممتاز هل من “العيب” أن أصبح نجاّراً ؟ لماذا ينظر المجتمع إلى مهنة الطب كمهنة محترمة بينما ينظر إلى المهن الحرفية بنوع من الاستخفاف ؟
إلغاء شروط القبول
أعتقد أنّه لو تمّ إلغاء شروط القبول للجامعات والكليات سنفتح المجال لأي شخص بأن يدرس أي موضوع يرغب به. قد يعارض البعض هذه الفكرة بحجة أنّ “مهنة الطب تحتاج إلى طلاب أكفاء يتحملون المسئولية” – كلام سليم لكن هل تتوقّع أنّ الشخص الذي يفتقر إلى الكفاءات المطلوبة سوف ينهي دراسته الجامعية بنجاح ؟ في هذه الحالة ستكون السنة الأولى في الجامعة أو الكلية هي سنة “فلترة” فمن يستطيع أن يتسلق الجبل سيكمل ومن يواجه صعوبات فسوف ينزل ويبحث عن جبل آخر.
شروط القبول تؤدي إلى إنشاء “هرم” من المهن حيث نجد في أعلى الهرم موضوع الطب مثلاً وفي أسفله مواضيع “مشي حالك”. هذا الهرم يعطي انطباعاً بأنّ التخصصات التي تحتاج إلى شهادة ثانوية بنسبة عالية جداً هي “أفضل” التخصصات وطبيعة الإنسان أنّه يبحث عن اختيار “الأفضل” لذلك نجد أن قسم كبير من أصحاب التحصيل العالي يدرسون الطب أو الهندسة ليس من منطلق حبّهم للموضوع وإنما لأنهّم يدرسون “أفضل” تخصّص متوفّر ولو كان التخصص الموجود في قمة الهرم “مروّض قرود” لكان الإقبال عليه كبيراً فقط لأنه “الأفضل”. إلغاء شروط القبول سوف يؤدي إلى “هدم” هذا الهرم.
ماذا بعد هدم الهرم ؟
بعد إلغاء شروط القبول وهدم الهرم سوف تختفي هذه الطبقية ويبدأ الطلاب باختيار التخصصات وفق ميولهم وليس وفق ظاهرة “الأفضل” لأنه في الواقع لا يوجد تخصص اسمه “الأفضل” فالمجتمع الناجح هو الذي يضّم مبدعين في كافة المجالات فنحن نريد أن نرى كوادر في مجالات أخرى غير مجال الطب والهندسة, نريد أن نرى كوادر حتى في المهن الحرفية التي ينظر إليها المجتمع كمهن “مشي حالك”. الكثير من طلاب الطب ضحايا وباء “الأفضل” يتذمرون من هذا التخصص بعد 5 سنوات من الدراسة المضنّية ونجد أيضاَ أنّ الكثير من أصحاب المهن الحرفية يعملون “بدون نفس” لأن المجتمع ينظر إلى مهنتهم كأنها مهنة “غير مرموقة”.
هل الخشب ينادي على الإبداع ؟
نعم والإثبات الأول هو إبداع [Michael Rea] الذي صنع دبابة من الخشب. يمكنك أن تشاهد المزيد من أعماله في موقعه. على النقيض, الإثبات الثاني هو باب في بيتي صنعه النجار وبعد أسبوع واحد فقط من الاستعمال (الصحيح) فقد الباب “أهمّ عضو في جسمه”.
أين هم وأين نحن ؟
وصلتني رسالة على بريدي قبل عدة أيام تبيّن بالصور أين وصل الغرب مقارنة بما وصلنا إليه وهناك مقالات كثيرة حول هذا الأمر والواقع معروف للجميع وربما من الأسباب التي أدّت إلى تراجعنا أن الكثير من طلابنا لا يلتحقون بالتخصص الملائم لهم فتجد الأب يقول لابنه “نريدك طبيباً حتى ترفع رؤوسنا ونفتخر بك” ولو قال الابن لوالده لا أريد أن أكون طبيباً بل أفضّل أن أدرس علوم الفضاء, سيجيبه الوالد “هذه لن تطعمك خبزاً” مما يحطّم آمال وطموحات الطالب منذ صغره فكيف سنصل للقمر والمريخ ؟ وما العجب أنّ المواهب تُسكب في نهاية المطاف بالتفحيط وفي تحجير السيارات ؟
هذا ما وصل اليه شبابنا خلاصة القول
لا يوجد تخصص هو “الأفضل”, كل التخصصات مهمة وعليك أن تختار التخصص الذي تميل إليه بدون أن تتأثر بضغوطات الأهل أو المجتمع. لا أرى أن الطبيب أفضل من النجّار بل علينا أن نسعى لتكوين مجتمع شمولي يحتوي على منتجين ومبدعين في شتى مجالات الحياة. عند اختيار التخصص لا تفكر بالرزق فرزقك مكتوب ومحدّد قبل أن تُنفخ فيك الروح. في الختام أود أن أشير أنّ للدولة أيضاً دور مهم جداً في هذا السياق فلا يكفي أن يختار الطالب التخصص الذي يحبه فهناك عوامل مكمّلة يجب على الدولة أن توفرها - ربما أتطرّق إليها في تدوينة قادمة إن شاء الله.