السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. سمير يونس
خرج أحد الولاة ذات يوم في جولةٍ بالسوق، وقد تنكر في زي تاجر، فمر بدكان قديم شبه خال من البضائع والسلع، وفيه رجل كبير في السن، يجلس على مقعد خشبي قديم.
نظر الأمير في أرجاء الدكان فلم ير سوى بعض اللوحات، فسأل الوالي صاحب الدكان: جئت السوق لأشتري.. فماذا عندك؟ فأجابه الرجل بهدوء وثقة: عندي أغلى بضائع السوق!!
تبسم الوالي متعجّباً من قول الرجل، وقال له: يا رجل أنا لا أرى في دكانك شيئاً يُشترى، هل أنت جاد فيما قلت؟ أم أنك تمزح؟!!
فأجابه الرجل: نعم، أنا جاد جدّاً، فبضائعي ثمينة غالية، فهي تختلف عن بضائع السوق كلّها!!
أخذت الوالي الدهشة وهو يسمع هذا الكلام من صاحب الدكان، وبادر بسؤال الرجل: ماذا تبيع يا رجل؟ فأجابه: أنا أبيع الحكمة، وقد بعت منها الكثير والكثير، وعادت على مَنْ اشتروها بالخير الوفير، ولم يبق عندي سوى لوحتين!!
أمسك الوالي بإحدى اللوحتين، ومسح عنها الغبار، فوجد مكتوباً عليها: "فكر قبل أن تفعل"!!
تدبر الوالي العبارة مليّاً، ثمّ التفت إلى الرجل وسأله: بكم تبيع هذه اللوحة؟ فأجابه الرجل بهدوءٍ وثقة: أبيعها بعشرة آلاف دينار فقط!!
ضحك الوالي طويلاً، في حين كان الرجل ساكناً وينظر إلى اللوحة نظرة تقدير وإعزاز.
وبادره الوالي سائلاً؛ هل أنت جاد في كلامك هذا؟ فقال الرجل: نعم، جاد، ولا مساومة في الثمن ولا مناقشة!!
ضحك الوالي متعجّباً مندهشاً وظن أنّ البائع مختل عقلياً، فاستمر في ممازحته وقال للرجل: أشتري هذه اللوحة بألف دينار.. فماذا تقول؟
رفض الرجل دون تردد، فظل الوالي يزيده حتى وصل إلى تسعة آلاف دينار، ولكن الرجل أصرّ إصراراً على السعر الذي نطق به أوّل مرّة، وهو عشرة آلاف دينار.
انصرف الوالي وهو يضحك، يكاد لا يصدق ما سمعه ورآه، وظن أنّ الرجل سيناديه بعد أن يبتعد عنه خطوات قليلات، ولكن هيهات هيهات.. فإنّ الرجل الكبير لم يكترث بانصرافه.
وبينما كان الوالي يتجول في السوق همّ أن يفعل شيئاً يأباه الخلق السليم، فتذكر الحكمة التي رآها مكتوبة على اللوحة بالدكان "فكر قبل أن تفعل"، فأعرض عما كان ينوي صنعه، وهنالك أدرك أنّه انتفع بالحكمة، وأيقن أنّ هذه الحكمة يمكن أن تكون له وقاية من شرور كثيرة، يمكن أن يقترفها، فتفسد عليه حياته
ومن ثمّ تحرك سريعاً صوب دكان الرجل الكبير، ولما وصل إلى الرجل قال له: لقد قررت أن أشتري هذه اللوحة بالثمن الذي حددته أنت.. فنهض الشيخ الكبير من على كرسيه، وأمسك بقطعة قماش قديمة، ومسح اللوحة فأزال بقية الغبارالذي علق بها، وبعد أن قبض ثمنها وقبل أن يغادر الوالي الدكان قال له الشيخ: قبل أن أسلمك هذه اللوحة لي شرط. فقال الوالي: وما الشرط؟ فقال الرجل: شرطي أن تكتب هذه اللوحة على باب بيتك، وبأي مكان تستطيعه في بيتك بل وعلى أدواتك وملابسك التي تستخدمها قدر استطاعتك!! فوافق الوالي!!
مرّت أيام وأسابيع وشهور، وبينما كان الوالي يعيش في أمن وسلام،يتنعم في قصره ويحرسه جنده، ويقوم الخدم على خدمته.. إذا بقائد جنده يقرر اغتيال الوالي لينفرد هو بالولاية!! وبالفعل حبك المؤامرة مع حلاق الوالي بعد أن أغراه بإغراءات شتى.
توجّه الحلاق إلى مكان الوالي، فلما وصل إلى باب القصر رأى مكتوباً على بابه "فكر قبل أن تفعل"!! فارتبك الحلاق، وارتعدت فرائصه هلعاً وخوفاً، ولكنّه استجمع جرأته، وعاد لينفذ فعلته.. وبينما هو يمشي في القصر إذا به يقرأ هذه الحكمة في كل مكان وتقع عليه عيناه: "فكر قبل أن تفعل!!".. حاول الحلاق أن يهرب من تلك الحكمة، فكلما رآها بعينيه حاول أن يبتعد عنها فإذا به يجدها في كل أرجاء القصر، فانتفض جسده من جديد، وشعر بأنّه المقصود بالعبارة، وأنّ العبارة تتردد على سمعه؛ فجرى صوب الوالي، فلما رآه أدهشه أن يرى الحكمة مكتوبة في الغرفة التي يمكث بها الوالي، فظن أنّ الوالي قد علم بمؤامرته، ولما أتى الخادم بصندوق الحلاقة اندهش الحلاق أكثر لما وجد الحكمة مكتوبة على الصندوق: "فكِّر قبل أن تفعل!!" اضطرب الحلاق، ونظر إليه، فإذا بالحلاق بين يدي الوالي منهاراً وهو يبكي، وصرح للوالي بتفاصيل المؤامرة، وبيّن له أنّ هذه الحكمة كانت السبب الوحيد الذي صرفه عن تنفيذ الاغتيال، فنهض الوالي وأمر بحبس قائد الحرس وأعوانه، وعفا عن الحلاق لصدقه وعمله بالحكمة التي قرأها!!
وقف الوالي أمام اللوحة، وكرر قراءتها وأدرك ثمرتها، فقرر أن يذهب لصاحب الدكان ليشتري منه حكماً أخرى، ولكنّه عندما وصل وجد الدكان مغلقاً وقد غطاه التراب، فلما سأل عن صاحبه، فأخبره الناس أن روح صاحبه قد صعدت إلى بارئها، فإنّا لله وإنا إليه راجعون..
حزين الوالي على صاحب الدكان، وظل يترحم عليه، ويدعو له بالأجر والمثوبة والمغفرة والجنة