وأنت إذا دخل اللصُّ بيتك أخذته الشفقة عليك .
فيردُّ وكأنه جادٌّ فيما يقول :
سرقوا شواهد القبور ، وبوابة العبور .
- ثمَّ ماذا ؟
سيف جدِّي البتار .
في أحد الأيام جاءَنا مذعوراً :
اللصوص سطوا على بيتي ، اغتنموا فرصة سفري عبر التاريخ إلى جبال المجد ، فسلبوا كلَّ ما أملك .
- وهل تملك شيئاً ؟
نعم ، دفتر مذكراتي ، وشاهدي الوحيد على قضيتي .
هبَّ أصحاب النخوة – وكنت من بينهم – وبدأنا البحث ، نزلت إلى الحديقة ، وعند إحدى درجات السلم الأرضية ، وجدت دفتراً صغيراً داسته الأقدام ، وتلطَّخ بالوحل ، التقطته ، وما إن فتحت فمي لأزفَّ البشرى
حتى أطبقه حبُّ الاستطلاع .
فتحت الصفحة الأولى ، وقرأت :
(( في مثل هذا اليوم ، نامت باريس على أنغام صهيل خيل الغافقي ، وفي مثل هذا اليوم تحطَّمت الطائرات عند الفجر ))
قلَّبت ، لم أستطع أن أتبَّين خطوط الكتابة ، فآثار الطين والأقدام ألصقت بعض الأوراق المتتابعة ، ها هي ذي ورقة من الممكن قراءتها
((لا تصرخ يا أبا تمام ، فالتين والعنب ، وكلُّ أنواع الثمار والفواكه قد نضجت ، وسقطت على الأرض ، ولم تجد الأيدي القادرة على لـمِّ ال***ب والثمار المجففة ))
أزحت ما علق على الصفحة التي تليها ، فإذا به يوم السبت ، ويذكر فيه :
(( أنَّ صحف اليوم قد أوردت خبراً عن فيلم يعرض لما نال أطفال اليهود في أوروبا في الحرب العالمية الثانية ، في الوقت نفسه كان أطفالنا يعبرون بحر البقر ))
لم أستطع أن أفهم الكثير من العبارات والإشارات التي وردت في صفحات متتالية ، فبعضها أسماء لرجال مثل :
(( خالد ، عقبة ، طارق ، صلاح الدين ، ابن تاشفين ، الفاتح عمر المختار ، العظمة ، القسام ))
وبعضها أسماء لمعارك مثل :
(( بدر ، ذات الصواري ، فتح الفتوح ، القادسية ))
إلى غير ذلك من الرموز التي تتحول أحياناً إلى حروف أو أرقام
بدأ الطين يخف أثره ها هو ذا يوم الأحد :
(( بيروت تُمهر بخاتم صهيون ))
وفي الورقة المقابلة
(( نبوءة العهد الجديد بالتقاء صهيون ومارمارون ))
في الاثنين :
(( احتجاج شديد اللهجة من قبل مندوبنا في الأمم المتحدة ، ما ضاع حق وراءه احتجاج شديد اللهجة )) .
وفي صفحة الثلاثاء :
(( اتفق العرب على أن لا يتفقوا ، حرب البسوس عادت ، يا لثارات تغلب ، يا لثارات بكر )) .
عدت أقلب الصفحات ، حتى وقعت على صفحة واضحة :
((عاد كسرى ، كسرى يعيش مرَّتين ، وعظ البحتريُّ إيوان كسرى ، و أصبحنا موعظة)).
وفي الصفحة التي تليها :
((انتصار عظيم يحققه العرب ، وصول ثلاث فرق عربية إلى مدريد ،
هل عادت الفتوح …؟! اليوم نفتتح كأس العالم)) .
وتحتها مباشرة كُتب :
((فتاة في عمر الورود تقود سيارة مفخخة مزَّقتها بعد أن فجَّرت قافلة للعدو))
أين أنت يا ابن أبي الربيعة :
كتب القتل والقتال علينا.....وعلى الغانيات جر ّالذيول
وفي الصفحة قبل الأخيرة كتب :
(( … بياض أو سواد ، ليل أو نهار ، حلاوة أو مرارة ، حزن أو فرح ، حياة أو موت ، فراغ أو انشغال ، جوع أو تخمة ، صحة أو سقم ، هزيمة أو انتصار …. استوت الأشياء . ))
سمعت صوت أقدامه وهو ينـزل درجات السلم ، أسرعت فتحت آخر صفحة ، وجدتها خالية إلاّ من أثر أقدام اللصوص ، أطبقت الدفتر وأنا أحس أنفاسه اللاهثة ،لم ينتظرني لأناوله شاهد القضية ، بل اختطفه من بين يدي ، وحضنه بين ذراعيه كالأب الحاني .
انتهت مهمتكم ، هذا ما صرَّح به وهو يحدِّق بنا ، ومن عيونه لمست ما غاب عني فهمه من أوراقه .
بقلم الدكتور / عبد الرزاق حسين
إحدى مجموعاته القصصيه