إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار
الثروة التي تملكونها، فترمونها؛ زهدًا فيها، واحتقارًا لها.
يُصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس،
فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛
فلماذا لم يرها لما كان صحيحًا بيضاء مشرقة؟
ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز
ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛
فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا،
ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي،
أو مُتَّشحةً بضباب المستقبل؟
كلٌّ يبكي ماضيه، ويحنُّ إليه؛
فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟
أيها السادة والسيدات:
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟
ألا تعرفون قصة الملك المريض
الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا،
لما نَظَر مِن شباكه إلى البستاني
وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه،
ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه،
فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا.
فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟
...أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلَّ في الصحراء،
وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء،
وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير،
وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا،
فلما رأى ما فيه، ارتدَّ يأسًا، وسقط إعياءً،
لقد رآه مملوءًا بالذهب !
وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر،
فزعموا،أنه سأل ربَّه أن يحوِّل كلَّ ما مسَّته يده ذهبًا،
ومسَّ الحجر فصار ذهبًا؛ فكاد يجنُّ مِن فرحته؛
لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا،
وعمد إلى طعامه؛ ليأكل، فمسَّ الطعام،
فصار ذهبًا وبقي جائعًا، وأقبلت بنته تواسيه،
فعانقها فصارت ذهبًا، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه
بنته وسُفرته، وأن يبعد عنه الذهب!
وروتشلد الذي دخل خزانة ماله الهائلة،
فانصفق عليه بابها، فمات غريقًا في بحر من الذهب.
يـا سـادة
لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟
أليس البصر من ذهب،
والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟
فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟
لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟
والعلامة ابن عابدين كان يطالع دائمًا،
حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل
أمر من يتلو عليه شيئًا من العلم فأَلَّف (الحاشية).
والسَّرَخْسي أَمْلَى وهو محبوس في الجبِّ،
كتابه (المبسوط) أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا.
وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت،
وهل يُضَيِّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؛
انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان،
تروا أنَّه لو قرأ مثله لا أقول كلَّ ليلة، بل كلَّ أسبوع مرة
لكان عَلَّامَة الدنيا،
بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب
كابن الجوزي والطبري والسيوطي، والجاحظ،
بل خذوا كتابًا واحدًا كـ(نهاية الأرب)، أو (لسان العرب)،
وانظروا، هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كله،
ونسخه مرة واحدة بخطِّه،
فضلًا عن تأليف مثله من عنده ؟
والذهن البشري، أليس ثروة؟
أما له ثروة؟ أما له ثمن؟
فلماذا نشقى بالجنون، ولا نسعد بالعقل؟
لماذا لا نمكِّن للذهن أن يعمل،
ولو عمل لجاء بالمدهشات؟
لا أذكر الفلاسفة والمخترعين، ولكن أذكِّركم بشيء قريب منكم،
سهل عليكم هو الحفظ، إنكم تسمعون قصة البخاري
لمَّا امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها،
فأعاد المائة بخطئها وصوابها،
والشافعي لمَّا كتب مجلس مالك بريقه على كفه،
وأعاده من حفظه،
والمعرِّي لما سَمِع أرْمَنِيَّيْنِ يتحاسبان بِلُغَتهما،
فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه،
والأصمعي وحمَّاد الراوية
وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار،
وأحمد وابن معين وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار،
والمئات من أمثال هؤلاء؛ فتعجبون،
ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا،
ولكنكم لا تفعلون.
انظروا كم يحفظ كلٌّ منكم من أسماء الناس، والبلدان،
والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم
وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ،
وكم يشغل من ذهنه ما يمرُّ به كلَّ يوم من المقروءات،
والمرئيات، والمسموعات؛
فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا،
لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.
يتبع
ان شاء الله ..