وفرت العائدات النفطية الهائلة –التي نجمت عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط والذي وصل إلى ذروته في صيف العام 2008 قبل أن تبدأ بالانخفاض الهائل خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام نفسه- موارد إضافية ضخمة داعمة لميزانيات الدول الخليجية التي تعتمد بمعظمها على تصدير النفط والصناعات النفطية الملحقة به (حيث تملك دول مجلس التعاون حوالي 44% من الاحتياطيات المؤكدة من النفط الخام في العالم، وحوالي 15% من احتياطيات الغاز الطبيعي.. وهذه الدول تنتج حوالي 15% من الناتج العالمي للنفط الخام، وتصل صادراتها من النفط الخام إلى حوالي 20% من إجمالي الصادرات العالمية).. وهو ما تجسد عملياً في مضاعفة العائدات المالية من النفط إلى أرقام قياسية، وتحقيق فوائض في الميزانية العامة والحساب الجاري والناتج المحلي الإجمالي.
وقد أحدث هذا الوفر الكبير (الذي يمكن تسميته بالطفرة النفطية) صدمةً حقيقية عملية لدى كثير من النخبة الاقتصادية وصناع القرار السياسي والاقتصادي الخليجي ممن يعملون على تطوير مجتمعاتهم على مختلف الأصعدة والمستويات الاقتصادية والتنموية.. بما يزيد من فرص ازدهارها وتقدمها وتأمين مستقبلها، وتمكنها من الاندماج التقني والاقتصادي في السوق الدولية، ويوفر لأبنائها عمالة متقدمة علمياً وتكنولوجياً..
وقد لاحظنا أن معظم الدول الخليجية أنشأت مؤسسات وشركات إعمارية وبنائية عملاقة وتكتلات صناعية (ظاهرة المدن الصناعية والعلمية في السعودية والكويت مثلاً) وصناديق تنموية ليس فقط في داخل بلدانها وإنما تخطت حدودها لتستثمر في بلدان مجاورة عربية وإقليمية وحتى في كثير من الدول الكبرى في أوروبا وأمريكا..
ولكن السؤال المطروح هنا، أنه ومع ازدياد أعداد سكان دول مجلس التعاون الخليجي، والحجم الهائل في زيادة الطلب على الاستهلاكيات والاحتياجات اليومية، وتعاظم القوة الشرائية لدى المواطن الخليجي الذي أدى إلى إقباله الشديد على الشراء في ظل تنوع (وضخامة) العروض المقدمة: كيف يمكن –في ظل ذلك كله- معالجة الخلل الهيكلي القائم في أسواق العمل الخليجية المتمثل حصراً في ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل من المواطنين مع الازدياد المطرد في أعداد الأيدي العاملة الخارجية المستقدمة من دول عربية مجاورة ودول أخرى آسيوية، حيث نلاحظ مثلاً وجود ما نسبته 60%من الأيدي العاملة الخارجية تقوم بتشغيل مختلف القطاعات الاقتصادية في كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وسلطنة عمان؟!!.. ثم وفي حال قررت الدول الخليجية الاعتماد على عمالة مواطنيها، فهل تتوفر لدى هؤلاء الخبرة العلمية الميدانية خصوصاً وأن الشركات والمؤسسات الاقتصادية الخاصة تطلب خبرات علمية وكوادر مدربة ذات مواصفات دولية محددة، حيث أن ميزان الربح والخسارة –في النهاية- هو المعيار الحاكم في أية شركة تجارية أو صناعية أو زراعية، أما منطق الشعارات والخطابات فهذا هراء لا طائل منه إطلاقاً؟!..
إذاً أين الخلل: هل هو موجود في ذهنية وعقلية الفرد والمواطن الخليجي (وطبيعة تصوراته وثقافة العمل عنده) العازف عن الانخراط في بعض مجالات العمل، أم أن الخلل قائم في طبيعة السياسات التعليمية والاقتصادية المطبقة في البلدان الخليجية والتي لا يمكن أن تساهم في تأمين شروط التأهيل العلمي الحقيقي لأبنائها ومجتمعاتها كشرط للانخراط في العمل الميداني مما يساهم في زيادة الطلب على تأمين العمالة الوافدة المدربة والمؤهلة لتنفيذ مشاريع التنمية والإعمار والبناء في دول الخليج؟!..
في الواقع لقد أدى الاعتماد الكبير على العمالة الوافدة إلى زيادة تعقيد عملية تجزئة أسواق العمل في تلك الدول، حيث لاحظنا أن القطاع الخاص الخليجي هو الذي يستقدم ويستقطب العمالة الوافدة، بينما تركزت العمالة الوطنية في القطاعات الحكومية العامة، وهذا ما جعل من غير الممكن الاستمرار في توظيف كامل العمالة الوطنية عندما بلغت قيود الميزانية حدودها القصوى، وازدادت بالتالي معدلات البطالة بين المواطنين.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن حكومات مجلس التعاون الخليجي –وفي سياق سعيها لحل إشكالية البطالة، وعدم الاعتماد الكلي على النفط في تطوير مختلف أوجه نشاطات مجتمعاتها- استفادت من تلك الزيادات الهائلة للإيرادات النفطية في تأمين النمو للكثير من القطاعات غير النفطية، ولكن على ما ظهر هناك أن الهياكل الاقتصادية الحالية لتلك الدول غير جاهزة فعلياً للتحول المذكور، مما أثر سلباً على تلك التغيرات المطلوبة في هيكل توزيع الناتج.
طبعاً القطاع الخاص الخليجي –وغير الخليجي- يريد لسهمه أن يبقى في حالة ربح وصعود، ولذلك فهو يفضل توظيف العمالة الوافدة الخبيرة على العمالة الوطنية غير الخبيرة التي تطلب – في حال توفرت الخبرة والتدريب عندها- أرقاماً كبيرة لا تقارن مع مستويات الأجور المعطاة لنظرائهم الأجانب. وفي المقابل نجد أن أجور العمال الأجانب أقل من نظرائهم الوطنيين، وأنهم يعملون لساعات أطول خاصة في القطاع الخاص، فضلاً عن انخفاض المزايا الممنوحة لهم بالمقارنة بالعمالة الوطنية. وهذا ما ساهم أيضاً في زيادة نسبة البطالة بين صفوف الشباب الخليجي.
ويبدو أن استمرار القطاع العام الخليجي في الهيمنة على مختلف القطاعات الإنتاجية، وقبوله توظيف العمالة المحلية من دون خبرات علمية سيؤدي إلى تضخمه ولاحقاً إلى انخفاض كفاءة المشروعات التي ينفذها، وذلك بالمقارنة بالقطاع الخاص.
ويعتقد كبار المحللين الاقتصاديين أن تضخم القطاع العام له أيضاً آثار سلبية على مستويات الرفاهية العامة. لأنه سيجعل من عملية التحول إلى الخصخصة مسألة معقدة بسبب تزايد فاتورة عملية إعادة هيكلة المشروعات العامة، والتكلفة الفادحة التي ستترتب على تحويل العمالة الوطنية بالقطاع العام نحو القطاع الخاص، وتعد النقطة الأخيرة من الأسباب الأساسية لبطء عمليات التحول نحو القطاع الخاص.
انطلاقاً من ذلك لابد من البدء بتطوير التعليم وتنمية القوة البشرية، لأن ذلك سيسهم مساهمة فعالة في عملية الإصلاح الاقتصادي وتصحيح الاختلالات الهيكلية القائمة في صلب الاقتصاد الخليجي وتحديداً منها مشكلة البطالة.
فالفرد هو العنصر الحاسم في أي عمل، وهو الثروة الحقيقية لأي مجتمع على مستوى الهدف والغاية والطموح. وبقدر ما ينجح أي مجتمع في تفعيل قدرات أفراده والارتقاء بإمكانياته فإن النجاح والفلاح سيكون من نصيبه، وسيحقق في النهاية طموحاته وأهدافه المتوخاة في التنمية والتطور والازدهار.
والفرد القادر على العطاء والإنتاج هو الفرد الخبير المدرب، ومن هنا تتأكد أهمية التعليم والتدريب كنشاط رائد في عملية التنمية، حيث يقع على كاهل النظام التعليمي مهمة تأهيل القوى البشرية الوطنية لمواجهة احتياجات التنمية في الأجلين المتوسط والطويل، كما تبرز أهمية التدريب في ضوء الحاجة لإعادة تأهيل وتدريب مخرجات التعليم لمواجهة احتياجات سوق العمل على المدى القصير، فضلاً عن التهيئة المستمرة لقوة العمل لمواجهة الاحتياجات المتطورة لأسواق العمل في ظل التقدم التكنولوجي المتواصل. وبالإضافة إلى التأهيل العلمي الحديث، تحتاج نظم التعليم إلى تطوير مناهجها بشكل واضح كي يتماشى مع متطلبات العصر، والانتقال من التركيز على الحفظ إلى الفهم والاستيعاب والابتكار، وتنمية مواهب الابتكار والتعامل مع وسائل التعليم الحديثة والحاسب الآلي ووسائل الاتصال الحديثة واللغات الأجنبية.
وعندما يتوفر العنصر البشري الخبير والمدرب، سيكون من الطبيعي جداً أن تعتمد عليه قطاعات العمل الخاصة في مجتمعاته، وسيحدث نوع من الشراكة والتكامل بين القطاعين العام والخاص على مستوى التنافس في الاعتماد على العمالة الداخلية المستقرة في بلدانها.
كما أن توفر العمالة الداخلية سيسهم من جهة ثانية في معالجة الخلل السكاني القائم في الدول الخليجية على مستوى ترشيد استخدام العمالة الوافدة، والعمل على ***** الوظائف من خلال تشجيع عمليات الإحلال، وتنمية القوى البشرية في المنطقة من خلال الدعوة إلى إلزامية التعليم لكل من البنين والبنات، والاهتمام بالتعليم الفني والمهني، وفتح مجالات العمل أمام المرأة، والعناية بمراكز التدريب. وبالرغم من الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه القطاع الخاص في هذا الجانب إلا أن استعداده في هذا المجال ما يزال محدودا. وتلعب السياسات الحكومية دوراً هاماً في تعقيد هذه المشكلة. حيث أدى ارتفاع معدلات الأجور للوطنيين –كما ذكرنا سابقاً- إلى عزوف القطاع الخاص عن توظيف مواطني دول المجلس، كما ساعد هيكل الحوافز للعاملين بالحكومة إلى عزوف العمالة المحلية عن الانخراط الميداني في العمل لصالح القطاع الخاص، وجاءت مخرجات قطاع التعليم لتعقد من المشكلة، حيث يوجد تفاوت واضح وصريح بين مستوى وطبيعة مخرجات التعليم واحتياجات القطاع الخاص. ولذا ينبغي التركيز في المستقبل على قضايا التعليم والتدريب وحل مشكلة البطالة، وذلك بهدف التغلب على اختلالات هيكل البنية السكانية واختلالات سوق العمل بما له من انعكاسات سلبية على دول المجلس.
ومن الممكن أن تلعب الاتفاقية الاقتصادية الموحدة دوراً مركزياً في هذا المجال من خلال تفعيل اتفاقيات حرية انتقال عنصر العمل بين الدول الأعضاء، ويمكن الاستفادة من التجربة الأوروبية في هذا المجال عن طريق الإعلان عن الوظائف المتاحة بكافة دول المجلس بشكل مركزي، وبحيث يتم إعطاء أفضلية في عملية شغل الوظائف بدولة ما إلى مواطني تلك الدولة أولا ثم مواطني دول المجلس الآخرين ثانياً، قبل أن يتم شغل تلك الوظائف من خلال العمالة الوافدة.
ولا بد من التأكيد أخيراً على أن بداية الحل الذي يمكن تصوره لمشكلة البطالة (التي تفتح أمامها مشاكل أخرى على الطريق نفسه) هو في الاعتراف الحقيقي بحجم المشكلة التي تواجهها الهياكل الاقتصادية الخليجية، وهي وجود بون شاسع وواسع لا يزال قائماً بيننا وبين أسس ومعايير قواعد التقدم العلمي والتقني الحديث بالمعنى العملي، ولذلك سنبقى ولسنوات طويلة بحاجة ماسة للكثير من الخبرات والكفاءات والكوادر الأجنبية غربية أم غير غربية وفي كافة المجالات، وأما ادعاؤنا بأن لدينا ثروات هائلة طبيعية (كالنفط مثلاً) فإنه لن يمكننا من الاستمرار في العيش الطويل والآمن في بلداننا عند مستويات رفاهيتنا المتوفرة حالياً بين أيدينا (خصوصاً وأننا مهددون بالركود الاقتصادي بعد أزمة أسواق المال وبدء انهيار كثير من البورصات والبنوك الدولية)، ما لم نعمل مباشرةً وعلى الفور، على إعادة النظر (وتركيز النقد الفكري) في مجمل طرائق تفكيرنا وأساليب عيشنا، وإعادة دراسة وموضعة ما بين أيدينا من القدرات والإمكانيات والمهارات والطاقات الهائلة التي لا نزال نمتلكها حالياً أو تلك التي يمكن أن نوفرها لأنفسنا في المجالات الأخرى في الحاضر والمستقبل ضماناً لنا ولأجيالنا اللاحقة كي يبقى لنا أثر طيب يمكن أن تذكرنا به في حياتها المستقبلية.
الكاتب: نبيل علي صالح